الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالجهل عند بعض أهل العلم كالحنابلة ينزل منزلة النسيان، فعندهم أن كل ما يعذر فيه بالجهل يعذر فيه بالنسيان، قال ابن قدامة في المغني: وما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان.اهـ. وللمزيد راجع الفتوى رقم: 64627 .
وعندالمالكية أن الجهل ليس كالنسيان في العبادات فليس يعذر فيها، ففي أنوارالبروق في أنواع الفروق لابن الشاط: الفرق الثالث والتسعون بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح وقاعدة الجهل يقدح وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه, الجهل والنسيان وإن اشتركا في أن المتصف بواحد منهما غير عالم بما أقدم عليه إلا أنه يفرق بينهما من جهتين:
الجهة الأولى: أن النسيان يهجم على العبد قهرا بحيث لا تكون له حيلة في دفعه عنه؛ بخلاف الجهل فإن له حيلة في دفعه بالتعلم.
الجهة الثانية: أن الأمة قد أجمعت على أن النسيان لا إثم فيه من حيث الجملة، ودل قوله عليه السلام: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. على أن الناسي معفو عنه. وأما الجهل فليس كذلك لأن من القاعدة التي حكى الغزالي في إحياء علوم الدين والشافعي في رسالته الإجماع عليها من أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه, ويدل عليها من جهة القرآن قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ. إذ معناه: ما ليس لي بجواز سؤاله علم، وذلك أنه عليه السلام لما عوتب على سؤال الله عز وجل لابنه أن يكون معه في السفينة لكونه سأل قبل العلم بحال الولد, وأنه مما ينبغي طلبه أم لا. وأجاب بما ذكر كان كلا العتب والجواب يدل على أنه لا بد من تقديم العلم بما يريد الإنسان أن يشرع فيه, وكذا قوله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. حيث نهى الله تعالى نبيه عليه السلام عن اتباع غير المعلوم, فدل على أنه لا يجوز الشروع في شيء حتى يعلم, وكذا قوله عليه السلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم. يعلم أن طلب العلم واجب عينا في كل حالة يقدم عليها الإنسان، فمن باع يجب عليه أن يتعلم ما عينه الله وشرعه في البيع, ومن آجر يجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في الإجارة, ومن قارض يجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في القراض، ومن صلى يجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة, وهكذا الطهارة وجميع الأقوال والأعمال، فمن تعلم وعمل بمقتضى ما علم فقد أطاع الله تعالى طاعتين, ومن لم يعمل فقد عصى الله معصيتين, ومن علم ولم يعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله تعالى طاعة وعصاه معصية، فمن هنا قال الشافعي رحمه الله تعالى: طلب العلم قسمان؛ فرض عين وفرض كفاية, ففرض العين علمك بحالتك التي أنت فيها، وفرض الكفاية ما عدا ذلك. وقال مالك رحمه الله: إن الجهل في الصلاة كالعمد, والجاهل كالمتعمد لا كالناسي. بل قال العلامة الأمير في شرحه على نظم بهرام فيما لا يعذر فيها بالجهل للقاعدة أن الجاهل في العبادات كالعامد.أهـ. وذلك أنه بتركه الواجب عليه من العلم بما يقدم عليه من نحو الصلاة كان عاصيا كالمتعمد الترك بعد العلم بما وجب عليه .والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.
وبالنسبة للتشهد الأول.. فمن رجع إليه بعد أن استقل قائما فصلاته صحيحة عند الشافعية إن كان رجوعه نسيانا أو جهلا، وتبطل إن رجع عمدا. وعند المالكية تصح إذا رجع نسيانا، وكذا إن رجع عمدا أو جهلا على المشهور.
ففى شرح الجلال المحلي على المنهاج الشافعي : ( ولو نسي التشهد الأول ) مع قعوده أو وحده ( فذكره بعد انتصابه لم يعد له ) لتلبسه بفرض فلا يقطعه لسنة. ( فإن عاد ) عامدا ( عالما بتحريمه بطلت ) صلاته لزيادته قعودا عمدا ( أو ناسيا ) أنه في الصلاة ( فلا ) تبطل، ويلزمه القيام عند تذكره ( ويسجد للسهو أو جاهلا ) تحريمه ( فكذا ) لا تبطل ( في الأصح ) لأنه مما يخفى على العوام ويسجد , والثاني: تبطل لتقصيره بترك التعلم. هذا كله في المنفرد، وفي معناه الإمام. اهـ.
وفي شرح الخرشي على مختصر خليل المالكي: فإن خالف ما أمر به من التمادي ورجع فإن صلاته لا تبطل إن لم يستقل ولو عمدا اتفاقا، وكذا إن رجع بعد استقلاله سهوا, وأما عمدا فالمشهور الصحة خلافا للفاكهاني مراعاة لمن يرى أن عليه الرجوع والجاهل كالعامد، وظاهره ولو كان عالما بخطأ فعله خلافا لسند. اهـ.
والزيادة في الصلاة من غيرجنسها إذا حصلت جهلا فإن كانت يسيرة فلا شيء فيها، وإن كثرت أبطلت الصلاة. ويرجع في تحديد الكثير واليسير لما تعارف عليه الناس. وراجع الفتوى رقم: 62642.
والله تعالى أعلم.