السؤال
ما حكم العمل في النيابة العامة والقضاء الوضعي علما بأن هذه الجهات لا تطبق الشريعة خصوصا النيابة وهي مرحلة لازمة للعمل بعد ذلك في القضاء حيث يمكن العمل في القضاء في مجالات تكاد تنعدم فيها المخالفة مثل المجالات المدنية في حين يضع والداي رضاهما معلقا على العمل في هذه الجهات وحجتهم أن المسلم الصالح لا يترك العمل في هذه الأماكن لغيره، وهناك فتاوى في الموقع تبدو متعارضة في حين تقولون إن هناك آراء في هذه المسألة، وحينا إذا سألكم البعض عن الحكم بغير شرع الله في مسألة معينه لم تجيزوا.... أرجو الإفادة أفادكم الله؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا يجوز للمسلم أن يعمل وكيلاً للنيابة في بلد تتحاكم إلى القوانين الوضعية المخالفة للشريعة، وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 10939. وهذا هو الراجح الموافق للنصوص الشرعية.
وفي سؤال مشابه لما سأل عنه السائل الكريم، أجاب الشيخ هاني بن عبد الله الجبير القاضي بمحكمة مكة المكرمة بعدم الجواز، وقال في تعليل ذلك إنه:
أولاً: مخالفة لشرع الله تعالى وخروج عن أمره؛ قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول (النساء:59) وقال: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا (النور:51).
وثانياً: معارضة لحق الله تعالى في التشريع والحكم بين عباده، قال تعالى: إن الحكم إلا لله [يوسف:40] وقال: أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً [الأنعام:114] وقد رتب الله تعالى على التحاكم إلى غير شرعه والحكم بغير ما أنزل وعيداً شديداً فقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [النساء:65] وقال: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44] وهذه المسألة أوضح من أن يستدل عليها، فهي من أصول الدين وقواعده العظيمة، ومعنى الإسلام: الخضوع لأمر الله والاستسلام له. وكل من عرف أن لا إله إلا الله فلا بد له أن ينقاد لحكم الله ويسلّم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله، فالله تعالى هو رب الناس وإلههم، فكما أنه الخالق فهو سبحانه الآمر الذي يجب عليهم طاعة أمره كما قال تعالى: ألا له الخلق والأمر [الأعراف:54] ومهنة وكيل النيابة إن كانت تتضمن تطبيقاً لقانون يخالف الشرع أو حكماً به وعملاً وتداعياً إليه فهي محرمة لما مر من الأدلة. اهـ.
وقال د / صلاح الصاوي في كتاب التطرف الديني: قد ترخص بعض المعاصرين في قبول ولاية القضاء في هذه الأيام استنادا لقواعد الضرورة، وتحقيقا لبعض المصالح أو دفعا لبعض المفاسد، ومنهم من فرق بين القضاء الذي لا يتعرض فيه القاضي للحكم بغير ما أنزل الله بصورة مباشرة كالمجالات الإدارية والمدنية نحوه، وبين المجالات التي تقوم مباشرة على مراغمة أحكام الشريعة كالمجالات الجنائية، فرخص في الأولى، ومنع من الثانية. ولا تزال هذه الاجتهادات في حاجة إلى مزيد من النضج والبلورة، ويبقى الأصل الجامع المحكم وهو حرمة الحكم بغير ما أنزل الله، وبطلان تولية القضاء في ظله وحرمة توليها. اهـ.
وينبغي التنبه إلى أن هذه الرخصة على ضعف دليلها ومخالفتها لظواهر النصوص، ينبغي أن تقتصر على مجرد المشاركة في هذه الوظائف دون أن يباشر المسلم الحكم بغير الشريعة، ولا أن يقر بذلك، وإنما يكون مقصده من وجوده في هذا الوظيفة هو تحقيق ما أمكن من مصلحة ودفع ما أمكن من مفسدة، دون مباشرة الحكم بالقانون الوضعي. وليترك هذا المجال لغيره ممن لا يتقي الله ولا يقف عند حدوده، أو ممن يجهل هذا الأمر. لا كما يقول الوالدان من أنه لا يترك العمل في هذه الأماكن لغيره. فالمقبول المعقول أن يترك المسلم ما حرم الله وإن كان غيره حريصا عليه، خوفا من الله وطلبا لمرضاته.
وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 18505. أن المبرر الوحيد الذي يجيز للمسلم الاشتغال بهذه المهنة وغيرها في ظل هذه الأنظمة وتلك القوانين، هو العمل على نصرة الدين وإقامة الحجة على المخالفين، وبيان تفاهة قوانينهم، والقيام بمصالح المسلمين ودفع الظلم عنهم أو تخفيفه حسب الإمكان في ذلك كله، فإذا أوصدت في وجهه الأبواب وتقطعت به السبل فحق عليه أن يعتزل؛ وإلا أصبح وجوده مشاركة في الظلم ويتحمل من الإثم بقدر عمله.
كما سبق لنا أيضا بيان حكم العمل في النيابة الإدارية، في الفتوى رقم: 35330 .
وأما طاعة والديك في هذا الأمر، فهذا فرع على حكمه، فإن عرفت حرمته كما بينا، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، مع التأكيد على الحرص على برهما والإحسان إليهما والنصح لهما.
والله أعلم.