السؤال
أنا فتاة في العقد الثاني من العمر، حدثت معي قصة قبل سنتين، وكان مضمونها أني في أحد الأيام وقعت في مأزق فكذبت واختلقت عذرا بقصد أن أخلص نفسي من هذا المأزق. فتسبب عذري في ظلم امرأة لم أنو ظلمها في الحقيقة، فالله تعالى وحده أعلم بالنيات. ولكن ظاهر هذا العذر يوحي بأني ظلمتها، فكان نتاج ذلك أن هذه المرأة دعت علي بقولها (حسبي الله عليك إلى يوم الدين) ولا أخفي عليك ياشيخ بأنه اقشعر بدني عند سماعي لهذه الدعوة، ولكني لم أستطع قول شيء. فمنذ ذلك اليوم إلى يومي هذا، وأنا أشعر بأن دعوتها تلاحقني في كل مكان، ولم أوفق في أي شي في حياتي. فعندما أيقنت بسوء مافعلت.أولا توجهت إلى غافر الذنب وقابل التوب وسألته العفو والمغفره، وكنت دوما أدعو لهذه المرأة بكل خير. وأسأل الله تعالى بأن تسامحني.ولكني مازلت أشعر بتأنيب الضمير. فماذا أفعل؟ هل يتوجب علي أن أبحث عنها لأعتذر منها شخصيا ويطمئن قلبي؟ فأنا في ضيق وحيرة من أمري لايعلمها إلا الله. أسألك بالله ياشيخ بأن ترد على رسالتي وتنصحني. سائلة المولى عز وجل أن يجزيك خير الجزاء.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الشرع لم يأذن في الكذب إلا في مواضع معينة، إذ الأصل تحريم الكذب وأنه لا يجوز، ومن هذه المواضع كذبُ الرجل على زوجته، والمرأة على زوجها، والكذبُ في الحرب، والكذب للإصلاح بين الناس، كما دل على ذلك الحديث الثابت في صحيح مسلم، ومن هذه المواضع أيضاً الكذب لدفع مفسدة راجحة ، كالخوف على النفس أو المال أو العرض، وإن كان استعمال المعاريض أولى ما أمكن.
قال الغزالي رحمه الله: فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلما وعرضه بلسانه وإن كان كاذبا.
وقال أيضاً: إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة فيكون الكذب حراما في الأصل إلا لضرورة. انتهى.
ولكن لا يجوزُ الكذبُ بما يتضمن مضرة للغير، وإن كان فيه مصلحةٌ للكاذب إذا لا يجوزُ للإنسان أن ينفع نفسه بما يضر به غيره.
قال ابن القيم رحمه الله: جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه. انتهى.
وبهذا تعلمين أن كذبكِ للتخلص من هذا المأزق إن كان ممّا يجوز فقد أخطأت حين تسببت به في الإضرار بتلك المرأة. فعليك الآن أن تجتهدي في البحث عنها وتبيني لها عذرك، وتطلبي منها أن تصفح عنك، فإن عجزت فاجتهدي في الدعاء والاستغفار لها، وليس عليك أكثر من ذلك؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأما إن كان المأزق الذي وقعت فيه ممّا لا يباح لك فيه الكذب فقد أخطأت خطأ عظيما حين كذبت، وظننت أن الكذب هو الذي يخلصك من هذا المأزق، وازداد خطؤك حين ترتب على هذا الخطأ إيذاء لمسلمة بريئة، وكان الواجب عليك أن تصدقي الحديث. فإن الصدق منجاة، وهذا كعب بن مالك قد نجاه الله بالصدق، وصار أسوة لمن بعده هو وصاحباه حتى أمر الله المؤمنين بالتأسي بهم. فقال تعالى:يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين {التوبة:119 } والقصة طويلة مشهورة رواها الشيخان وغيرهما.
فلو كنت صدقت لنجاك الله عز وجل من هذا المأزق، وكان صدقك خيرا لك في دنياك وآخرتك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا. متفق عليه.
أما وقد حصل ما حصل فالواجب عليك هو التوبة النصوح المستجمعة لشروطها من الندم والإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العودة إليه في المستقبل، ومن شروط التوبة أيضا أن الذنب إذا كان متعلقا بحق آدمي فلا بد من رد الحق إليه أو استحلاله.
قال النووي رحمه الله: وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها. انتهى.
وبه تعلمين أن الواجب عليك أن تبحثي عن هذه المرأة وتطلبي منها أن تعفو عنك وتحلك من هذا الحق، فإن الحساب يوم القيامة ليس بالدراهم والدنانير، ولكن بالحسنات والسيئات، فإن لم تتمكني من الوصول إلى هذه المرأة فاجتهدي في الدعاء لها والاستغفار لها مع الندم على هذا الذنب وليس عليك أكثر من هذا فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ونرجو أن لا يضرك دعاءها إذا كنت صادقة في التوبة حريصة على توفية شروطها.
والذي ننصحك به هو أن تلزمي الصدق فيما يستقبل من حياتك، وأن تكوني عليه أشد حرصا بعد ما عرفت غائلة الكذب وما يجره على العبد من الضرر في دينه ودنياه، وأن تجتهدي في الدعاء أن يقبل الله توبتك ويقبل عثرتك.
والله أعلم.