الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم العتيرة أو الرجبية ومدى صحة الحديث الوارد فيها

السؤال

أفيدوني عن صحة هذا الحديث: عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: كُنَّا وُقُوفًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ، هِيَ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّةَ. أخرجه البيهقي (9/260 ، رقم 18789) . وأخرجه أيضًا : أحمد (4/215 ، رقم 17920) ، وأبو داود (3/93 ، رقم 2788) والترمذي (4/99 ، رقم 1518) والنسائي (7/167 ، رقم 4224) وابن ماجه (2/1045 ، رقم 3125). وصححه الألباني.صحيح سنن الترمذي.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

أما بعد، فقد اختلفت أقوال أهل العلم في صحة هذا الحديث وضعفه، فقد قال الإمام الترمذي بعد أن روى هذا الحديث بإسناده إلى مخنف بن سليم رضي الله عنه: قَالَ أَبُوعِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَلاَ نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وكذلك صحح الشيخ الألباني حديث الإمام الترمذي، بينما ضعفه الإمام الخطابي والإمام أبو بكر المعافري.

قال الإمام النووي في شرح صحيح الإمام مسلم: وَالْعَتِيرَة: ذَبِيحَة كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي الْعَشْر الْأُوَل مِنْ رَجَب وَيُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّة أَيْضًا.

وعلى القول بصحة الحديث، فقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه منسوخ بغيره من الأحاديث، وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ.

ومذهب الشافعية-كما حققه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم- استحباب الفرَع والعتيرة، وقال إنه نصُّ الإمام الشافعي، وسيأتي توضيح ذلك.

قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: الْفَرَع شَيْء كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَطْلُبُونَ بِهِ الْبَرَكَة فِي أَمْوَالهمْ، فَكَانَ أَحَدهمْ يَذْبَح بِكْر نَاقَته أَوْ شَاته، فَلَا يَغْذُوهُ رَجَاء الْبَرَكَة فِيمَا يَأْتِي بَعْده، فَسَأَلُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ: فَرِّعُوا إِنْ شِئْتُمْ أَيْ اِذْبَحُوا إِنْ شِئْتُمْ وَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة خَوْفًا أَنْ يُكْرَه فِي الْإِسْلَام، فَأَعْلَمهُمْ أَنَّهُ لَا كَرَاهَة عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ اِسْتِحْبَابًا أَنْ يُغْذُوهُ ثُمَّ يُحْمَل عَلَيْهِ فِي سَبِيل اللَّه. قَالَ الشَّافِعِيّ: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفَرَع حَقّ. مَعْنَاهُ: لَيْسَ بِبَاطِلٍ، وَهُوَ كَلَام عَرَبِيّ خَرَجَ عَلَى جَوَاب السَّائِل. قَالَ: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا فَرَع وَلَا عَتِيرَة. أَيْ لَا فَرَع وَاجِب، وَلَا عَتِيرَة وَاجِبَة، قَالَ: وَالْحَدِيث الْآخَر يَدُلّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ أَبَاحَ لَهُ الذَّبْح، وَاخْتَارَ لَهُ أَنْ يُعْطِيه أَرْمَلَة أَوْ يَحْمِل عَلَيْهِ فِي سَبِيل اللَّه، قَالَ: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَتِيرَة: اِذْبَحُوا لِلَّهِ فِي أَيّ شَهْر كَانَ. أَيْ اِذْبَحُوا إِنْ شِئْتُمْ، وَاجْعَلُوا الذَّبْح لِلَّهِ فِي أَيِّ شَهْر كَانَ لَا أَنَّهَا فِي رَجَب دُون غَيْره مِنْ الشُّهُور، وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا وَهُوَ نَصّ الشَّافِعِيّ اِسْتِحْبَاب الْفَرَع وَالْعَتِيرَة وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث: لَا فَرَع وَلَا عَتِيرَة بِثَلَاثَةِ أَوْجُه:

أَحَدهَا: جَوَاب الشَّافِعِيّ السَّابِق أَنَّ الْمُرَاد نَفْي الْوُجُوب.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد نَفْي مَا كَانُوا يَذْبَحُونَ لِأَصْنَامِهِمْ.

وَالثَّالِث: أَنَّهُمَا لَيْسَا كَالْأُضْحِيَّةِ فِي الِاسْتِحْبَاب أَوْ فِي ثَوَاب إِرَاقَة الدَّم. فَأَمَّا تَفْرِقَة اللَّحْم عَلَى الْمَسَاكِين فَبِرّ وَصَدَقَة، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيّ فِي سُنَن حَرْمَلَة أَنَّهَا إِنْ تَيَسَّرَتْ كُلّ شَهْر كَانَ حَسَنًا. هَذَا تَلْخِيص حُكْمهَا فِي مَذْهَبنَا. وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاض أَنَّ جَمَاهِير الْعُلَمَاء عَلَى نَسْخ الْأَمْر بِالْفَرَعِ وَالْعَتِيرَة. وَاللَّهُ أَعْلَم. اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ... وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم مِنْ حَدِيث الْحَارِث بْن عَمْرو أَنَّهُ لَقِيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع، فَقَالَ رَجُل: يَا رَسُول اللَّه الْعَتَائِر وَالْفَرَائِع؟ قَالَ: مَنْ شَاءَ عَتَّرَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُعَتِّر، وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّع. وَهَذَا صَرِيح فِي عَدَم الْوُجُوب لَكِنْ لَا يَنْفِي الِاسْتِحْبَاب وَلَا يُثْبِتهُ، فَيُؤْخَذ الِاسْتِحْبَاب مِنْ حَدِيث آخَر. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث أَبِي الْعُشَرَاء عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْعَتِيرَة فَحَسَّنَهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ طَرِيق وَكِيع بْن عُدَيْس عَنْ عَمّه أَبِي رَزِين الْعُقَيْلِيّ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا كُنَّا نَذْبَح ذَبَائِح فِي رَجَب فَنَأْكُل وَنُطْعِم مَنْ جَاءَنَا، فَقَالَ: لَا بَأْس بِهِ. قَالَ وَكِيع بْن عُدَيْس: فَلَا أَدْعُهُ وَجَزَمَ أَبُو عُبَيْد بِأَنَّ الْعَتِيرَة تُسْتَحَبّ، وَفِي هَذَا تَعَقُّب عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ اِبْن سِيرِينَ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ. وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ اِبْن عَوْن أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلهُ، وَمَالَ اِبْن الْمُنْذِر إِلَى هَذَا وَقَالَ: كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُمَا وَفَعَلَهُمَا بَعْض أَهْل الْإِسْلَام بِالْإِذْنِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُمَا، وَالنَّهْي لَا يَكُون إِلَّا عَنْ شَيْء كَانَ يُفْعَل، وَمَا قَالَ أَحَد إِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا ثُمَّ أَذِنَ فِي فِعْلهمَا ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الْعُلَمَاء تَرْكهمَا إِلَّا اِبْن سِيرِينَ، وَكَذَا ذَكَرَ عِيَاض أَنَّ الْجُمْهُور عَلَى النَّسْخ، وَبِهِ جَزَمَ الْحَازِمِيّ، وَمَا تَقَدَّمَ نَقْله عَنْ الشَّافِعِيّ يَرُدّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظ لَهُ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ عَائِشَة أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَرَعَةِ فِي كُلّ خَمْسِينَ وَاحِدَة. اهـ.

ولمزيد بيان انظر الفتويين: 124541، 124542.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني