الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا بد من بيان حكم الإحرام من الميقات، ثم نوجه كلام الإمام مالك رحمه الله.
فاعلم أولا أن عامة أهل العلم على أن الإحرام من وراء الميقات صحيح معتد به، وأن من أحرم قبل بلوغ الميقات فإحرامه صحيح، وحكاه ابن المنذر إجماعا.
والقائلون بأن الإحرام قبل الميقات منعقد اختلفوا هل هو أفضل، أو هو جائز أو مكروه؟
قال ابن بطال في شرح البخاري حكاية عن ابن المنذر بعد حكاية الإجماع المشار إليه ما عبارته: غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك ، واستحبه آخرون ، فممن رأى ذلك ابن عمر أحرم من إيلياء، وسئل علي وابن مسعود عن قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ. {البقرة: 196}. فقالا : أن تحرم من دويرة أهلك . وأجاز ذلك علقمة والأسود ، وهو قول أبى حنيفة، والثوري، والشافعي . وكره الإحرام قبل المواقيت عمر بن الخطاب ، وأنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة ، وأنكر عثمان بن عفان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات، وهو قول عطاء، والحسن، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وقال أحمد: المواقيت أفضل ؛ لأنها سنة النبى عليه السلام. قال إسماعيل القاضى : وإنما كرهوا ذلك والله أعلم لئلا يضيق المرء على نفسه ما وسع الله عليه ، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث فى إحرامه ، وكلهم ألزمه الإحرام فإنه زاد ولم ينقص. انتهى.
والصواب قول من كره الإحرام قبل الميقات، لأنه قول عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولموافقته لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يختار إلا الأفضل، وإحرام من أحرم قبل الميقات منعقد لأن من أنكره من الصحابة لم يلزم من فعله بتجديد الإحرام، ولأنه قول عامة العلماء، والذاهبون إلى عدم الصحة قليل من أهل العلم.
قال ابن قدامة مبينا وجه كراهة الإحرام قبل الميقات: ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل فإذا قيل : إنما فعل هذا لتبيين الجواز قلنا : قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت، ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم ولما تواطؤوا على ترك الأفضل واختيار الأدنى وهم أهل التقوى والفضل وأفضل الخلق، ولهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم، وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه. وروى الحسن أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر فغضب وقال : يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أحرم من مصره. وقال: إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له رواهما سعيد والأثرم، قال البخاري : كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره، ولأنه تغرير بالإحرام وتعرض لفعل محظوراته وفيه مشقة على النفس فكره كالوصال في الصوم، قال عطاء : انظروا هذه المواقيت التي وقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه فيكون أعظم لوزره فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك. انتهى.
وأما الأثر المذكور عن مالك فهو صحيح النسبة إليه رواه الزبير بن بكار عن سفيان بن عيينة عنه، ويأتي لفظه، وهو يدل على أن من وجوه الكراهة خشية الابتداع في الدين والزيادة على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاد أن ما هو عليه خير مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذلك قال مالك للسائل، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى شيء لم يسبق إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من احتياط مالك للسنة وحرصه عليها وعلى الوقوف عندها وسد باب الابتداع في الدين الذي يجر إلى الغلو والزيادة على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم الذي هديه أحسن الهدي، ولهذا كره مالك الإحرام قبل الميقات وإن كان يراه منعقدا يلزم فاعله ما يلزم المحرم.
قال الشاطبي في الاعتصام: وأما أنه يخشى عليه الفتنة فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال : سألت مالكا عمن أحرم من المدينة وراء الميقات ؟ فقال: هذا مخالف لله ورسوله أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة أما سمعت قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }. وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يهل من المواقيت.
وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال : سمعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه و سلم. فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد فقال: لا تفعل قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة فقال : وأي فتنة هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ إني سمعت الله يقول : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }.
ثم قال الشاطبي معلقا: وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه الله تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم، فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه وما سنه نبيه صلى الله عليه و سلم دون ما اهتدوا إليه بعقولهم وفي مثل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما روي عنه ابن وضاح : لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة ـ إذ مر بقوم كان رجل يجمعهم يقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله فيقول القوم، ويقول رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله فيقول القوم. انتهى.
وبهذا يتبين أنه لا تنافي بين هذا الأثر وما حكاه ابن المنذر من الإجماع، وأن مالكا لا يوجب الإحرام من الميقات وإن كان يستحبه ويكره الإحرام قبله لهذا المعنى الذي بينه الشاطبي ولغيره من المعاني التي سبق بيانها بوضوح.
والله أعلم.