الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه لا يجوز حرمان البنات من نصيبهن وحقهن من التركة، ومن فعل ذلك فهو متعد آثم، فقد قال الله تعالى: لِلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا {النساء:7}. وقال تعالى بعد بيان توزيع التركة على أصحابها: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ {النساء:13-14}.
وبناء عليه فان المال الذي تركه المتوفى يعتبر كله تركة، يأخذ كل وارث منها نصيبه الشرعي، قل هذا النصيب أو كثر، سواء كان ولدا أو بنتا.
فالبنت المذكورة ترث من أبيها سهما هو نصف نصيب واحد من أولاده الذكور، لقول الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {النساء: 11}.
ولا يجوز للورثة الذكور الامتناع عن القسمة واستغلال التركة لمصلحتهم دون مصلحة الأخت. فإن فعلوا ذلك بدون إذن منها كان هذا أكلا لمال الغير بالباطل وغصبا لحقه، ويجب عليهم التوبة إلى الله عز وجل، وقسمة هذا الحق بين الورثة كل حسب نصيبه الشرعي. وما اكتسبوه من غلة التركة، يجب توزيعه حسب القسمة الشرعية، ولا يحل لهم الاستبداد به دون الأخت ولهم الحق في أجرة عملهم حسب أجرة المثل أو نسبة من الربح معتادة في البلد كالنصف مثلا، ولا يكفي اعتمادهم على تولية الوالد لهم تسيير المحل في حياته، فقد بينا في بعض الفتاوى السابقة أن توكيل الوالد لأحد أولاده في التجارة بماله يبطل بموته؛ لأن الوكالة تبطل بموت الموكل، كما قال ابن عاصم الأندلسي المالكي:
وموت من وكل أو وكيل * تبطل ما كان من التوكيل
والعزل للوكيل والموكل * منه يحق بوفاة الأول
وذلك لأن الحق قد انتقل إلى الورثة فلا يلزمهم توكيل مورثهم. وبناء عليه، فإن للبنت حقها من أصل المال وما نتج عنه من أرباح، وللإخوة حقهم في العمل، وإذا حصل الخلاف فالأولى أن يفض النزاع عن طريق الصلح سداً لذريعة التقاطع والتدابر، فإن الأرحام والأقارب يتعين السعي في تفادي تفاقم المشاكل التي تقع بينهم، والحرص على الصلح بينهم.
وقد صرح الفقهاء بأن القاضي يندب له حث الخصوم على الصلح، ويجب إذا خاف تفاقم المشكلة.
قال صاحب الكفاف وهو مالكي في باب القضاء:
بالصلح مر الأرحام والأكارما * ندبا وحتما إن تخف تفاقما.
و قال ابن عاصم في التحفة:
والصلح يستدعي له إن أشكلا * حكم وإن تعين الحق فلا
ما لم يخف بنافذ الأحكام * فتنة أو شحنا أولي الأرحام
فعليكم بالسعي في الإصلاح بين هؤلاء الإخوة وحث كل منهم على التسامح عملا بقول الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. {النساء: 114}.
فإذا تسامحوا واتفقوا على الصلح فالأولى استدعاء العقلاء من أقاربكم للنظر في أصل المال وما نتج عنه من أرباح ويقسم الأصل حسب التقسيم المعروف، وهو إعطاء الأخت نصف نصيب أحد الإخوة، وتقسم الأرباح نصفين يعطى الأخوان أحدهما مقابل عملهما ويقسم الباقي بين الجميع للذكر مثل حظ الأنثيين. فان لم يتضح الأمر فلهم أن يصطلحوا بما يمكن الاتفاق عليه ويرضي الجميع. وهذا الحكم داخل فيما يعرف عند العلماء بالصلح عن المجهول بالمعلوم فيما يتعذر علمه، وهو مذهب كثير من أهل العلم.
قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ويصح الصلح عن المجهول، سواء كان عيناً أو ديناً، إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته، قال أحمد في الرجل يصالح على الشيء: فإن علم أنه أكثر منه، لم يجز إلا أن يوقفه عليه، إلا أن يكون مجهولاً لا يدري ما هو.. وقال ابن أبي موسى: الصلح الجائز.. وكذلك الرجلان يكون بينهما المعاملة والحساب الذي قد مضى عليه الزمان الطويل، لا علم لكل واحد منهما بما عليه لصاحبه، فيجوز الصلح بينهما، وكذلك من عليه حق لا علم له بقدره، جاز أن يصالح عليه، وسواء كان صاحب الحق يعلم قدر حقه ولا بينة له، أو لا علم له ويقول القابض: إن كان لي عليك حق فأنت في حل منه. ويقول الدافع: إن كنت أخذت مني أكثر من حقك فأنت منه في حل. انتهى.
وقال صاحب فتح القدير وهو حنفي: الصلح عن مجهول على معلوم جائز.
وقال في كشاف القناع وهو حنبلي: ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم إذا كان المجهول مما لا يمكن معرفته وقوله للحاجة نصا متعلق بيصح علة له سواء كان المجهول عينا أو دينا، أو كان الجهل من الجانبين كصلح الزوجة عن صداقها الذي لا بينة لها به، ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه، وكذا الرجلان بينهما معاملة وحساب قد مضى عليه زمن طويل، ولا علم لكل منهما بما عليه لصاحبه. اهـ
ومما يستدل به على ذلك ما رواه أحمد عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته أو قال لحجته من بعض، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها أسطاما في عنقه يوم القيامة، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: فيه دليل على أنه يصح الإبراء من المجهول لأن الذي في ذمة كل واحد ههنا غير معلوم، وفيه أيضا صحة الصلح بمعلوم عن مجهول، ولكن لا بد مع ذلك من التحليل. اهـ.
والله أعلم.