الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التائب من الذنب كمن لا ذنب له

السؤال

أرجو من فضيلتكم أن يتسع صدركم الكريم لروايتي
أبلغ من العمر خمسين عاما، ورغم أنني قمت بالحج والعمرة مرات عديدة إلا أنني في معظم أيام حياتي لم أكن من المحافظين تماما على الصلاة فكنت أصلي فترة وأتكاسل أخرى.
وكنت أفطر في رمضان بعض الأيام في صغري، وفي حياتي تعرفت على بعض النساء، ولكن لم يصل الطريق لأكثر من مقدمات الزنا، وامتدت يدي للسرقة عدة مرات، وكثيرا ما لجأت لليمين الكاذبة والغيبة والنميمة والنظرة المحرمة والدخول على المواقع الخليعة.
وبالرغم مما سبق لم أضيع الزكاة طوال حياتي، ولم أتأخر أبدا عن مد يد العون لمحتاج وكنت بارا بوالدتي ـ رحمها الله ـ ووالدي ـ أطال الله عمره ـ وواصلا لرحمي على قدر الاستطاعة.
سيدي الفاضل: أشياء كثيرة من المحرمات وقعت فيها، والأدهي أن خلفيتي العلمية والدينية جيدة جدا، وكل من يتعامل معي يحبني ويحترمني، فأنا إنسان محترم جدا مع الناس، ولكن لا أبدو كذلك مع الله سبحانه وتعالى، وكنت دائما أشعر بتأنيب الضمير، وبعد فترة أعود للمحرمات، مع علمي التام بأن ما أفعله كله حرام، ولكن الشيطان تمكن مني فعلا، وكان دائما يوسوس لي بأنه طالما القلب نظيف، ويعرف الله فلا شيء عليك، وقد بدأت منذ فترة أفيق مما أنا فيه وأقولها بصراحة كان ذلك بعد ابتلاء شديد وقعت فيه؛ من ضياع الأموال وخسارة كبيرة تعرضت لها، فتبت إلى الله من كل المحرمات، وانتظمت في الصلاة والصوم، وكففت يدي وعيني ولساني عن كل محرم، وانتظمت في الاستغفار والتسبيح والدعاء والبكاء بين يدي الله ليقبل توبتي ويغفر لي، كما أدعو الله أن يقيل عثرتي ويفتح علي أبواب الرزق حتى أستطيع رد المظالم التي في رقبتي.
لقد تبت وعزمت على أن لا أعود لذنوب الماضي بالرغم من أن الشيطان كثيرا ما يذكرني بذنوب فعلتها، وأعرف أنه يريد أن يقضي على عزيمتي، ولكنني أجاهده، ومع ذلك أحس أن الله قد لا يقبل الدعاء بما فعلته من ذنوب وخطايا.
فهل يقبل الله توبتي وقد عزمت عليها؟ وماذا أفعل فيما فاتني من صلاة وهي كثيرة؟ وأحاول صلاة كل الرواتب والصلاة في الليل.
وباقي الذنوب وأهمها حقوق العباد التي لا بد من أدائها، وفي الوقت الحالي ليس لدي إلا ما يكاد يكفيني أنا وأولادي حيث وضعت كل ما تبقي لي من مال في مشروع صغير لا يدر الآن دخلا.
أدعو الله كثيرا أن يقبل توبتي وأن يرزقني وسأظل أدعو، ولكن أخاف من أن يكون الله لا يستجيب لي بسبب ذنوبي وما أكلته من حرام، فهل حقا كثرة الذنوب تمنع استجابة الدعاء، وأكل الحرام في الماضي وإن تبت منه كذلك.
فأنا أدعو بأن يرزقني الله لأرد كل ما امتدت إليه يدي.
وآسف على الإطالة. وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإنا نهنئك على ما وفقك الله له من الطاعات ـ كالحج والعمرة والزكاة وبر الوالدين، وعلى الانتباه للأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها، وعزمك على التوبة منها وانتظامك مؤخرا في الصلاة والصوم والذكر والاستغفار ـ فالحمد لله على ذلك، وعليك بصدق العزم على التوبة وحمل النفس على الاستقامة والبعد عن نزغات الشيطان والأجواء والبيئات التي تساعد على الوقوع في المعاصي، فابحث عن صحبة صادقة مؤمنة تذكرك بالخير وتعينك عليه، وارتبط بالمساجد، وأكثر من مطالعة أحاديث الترغيب والترهيب، واعلم أن التوبة والدعاء تعهد الله تعالى بقبولها فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. {الشورى: 25 }. وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ. {غافر: 60 }.

فتب إلى الله تعالى مع العزم الصادق على عدم العودة، والندم على ما فات، وأكثر من الاستغفار والعمل الصالح، فقد قال تعالى: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. {المائدة: 39 }. وقال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً. {النساء: 110}.

وأما الصلوات التي فاتتك والأيام التي لم تصمها فيجب عليك قضاؤها عند الجمهور، ويرى كثير منهم أنها تقدم على النوافل إلا الوتر والفجر، وقد قدمنا الكلام على ذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 121796، 126811، 12700.

كما أن الأموال التي أخذتها يجب ردها لأصحابها، لما في حديث المسند: على اليد ما أخذت حتى تؤديه. ولا حرج عليك في رده من دون إعلام للمأخوذ منه أنك سرقت منه.

وحاول أن تتكسب وتجتهد في الادخار لتجمع من المال ما تقضي به هذه الحقوق، فإن الذمة لا تبرأ منها إلا بردها لأصحابها، أو استحلالهم منها، وإذا علم الله منك صدق التوبة فإنه سيعينك، واستعن بأدعية قضاء الدين فقد قدمنا بعضها في الفتوى رقم: 33345.

وأما أكل الحرام: فهو من أسباب عدم الاستجابة، كما في حديث مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ـ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام ـ فأنى يستجاب لذلك!.

ولكننا نرجو لمن تاب توبة صادقة مما سبق أن يتوب الله عليه، وأن يستجيب دعاءه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني