السؤال
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه. في الفتوى رقم: 125373 قال ابن القيم: فلذلك لا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب، والاعتراف به، وطلب التخلص من سوء عواقبه أولا وآخرا. هل قصد صلى الله عليه وسلم أنواع الشرك الأصغر والأكبر بالحديث؟ فمثلا عندما أعصي الله يأتيني شيء يقول لي إنك تفضل المعصية على الله وطاعته، أو أنك جعلتها ندا لله، وذلك لأنني أكون سعيدا بالمعصية، ثم أتذكر الله ومراقبته، وأحس أن قلبي يبغض ذلك ويفضل المعصية، ثم أحقق مع نفسي وتتتابع الاتهامات بيني وبين نفسي. كذلك عندما يقول لي أبي اذهب واشتر لي الدخان، أتذكر الله، ولكني أعتذر لله وأقول له: لا أريد أن أتخذ إلهي هواي، ولا أن أجعل لك ندا، بل أنا لا يوجد عندي جرأة أن أقول لأبي لا، ولا أحب أن أدخل معه في نقاشات. فهناك كثير من الناس يمر معهم هذا، فهل عندما أقول كما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يذهب عني الشرك كجعل الأنداد لله واتخاذ الهوى إلها من دون الله. وماذا عن الأمور المماثلة التي عملتها ونسيتها أو عملتها وأنا في شك من أمري هل قصدت أم لا؟ ولا سيما أن ابن القيم قال كما في أعلاه لا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب والاعتراف به، فكيف أعرف وأعترف بذنب عظيم كتلك التي ذكرتها في حالة نسيان هذا العمل أو الشك أني عملته، فإذا قلت كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هل يذهب عني ذلك كأني تبت من التي نسيتها وأشك أني عملتها. كذلك هل ينطبق ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم على كل ذنب عظيم اقترفه الإنسان كمن كفر ونسي أو شك بكفره، وقال اللهم إني أعوذ بك أن أكفر بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم. فهل هذا يعتبر توبة.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمراد بالشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل الشرك الأصغر كالرياء، وما يكون من حلف الرجل بغير الله، أو قوله لولا الله وفلان ونحو ذلك، كما نطقت به عبارات السلف، أما الشرك الأكبر فإنه ظاهر لا خفاء به، يقول ابن القيم في نونيته:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر وهو اتخاذ الند للرحمن.
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ذا القسم ليس بقابل الغفران.
وقال شيخ الإسلام في شرح العمدة: قال صلى الله عليه وسلم: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل وفسره بالرياء. وقال ابن رجب رحمه الله: وكذلك الشرك : منه ما ينقل عن الملة ، واستعماله في ذلك كثير في الكتاب والسنة . ومنه : ما لا ينقل ، كما جاء في الحديث : " من حلف بغير الله فقد أشرك " ، وفي الحديث : " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " ، وسمي الرياء : شركا . وتأول ابن عباس على ذلك قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون [ يوسف : 106 ] قال : إن أحدهم يشرك حتى يشرك بكلبه : لولا الكلب لسرقنا الليلة ، قال تعالى : ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( [ الكهف : 110 ] . وقد روي أنها نزلت في الرياء في العمل . وقيل للحسن : يشرك بالله ؟ قال : لا ؛ ولكن أشرك بذلك العمل عملا يريد به الله والناس ، فذلك يرد عليه . انتهى
فإذا علمت ما مر، وأن المراد بالشرك في الحديث المذكور الأصغر منه، فاعلم أنا قد سبق لنا بيان أن المعاصي وطاعة الهوى لا تدخل -على الراجح- في مسمى الشرك الأصغر فضلا عن الأكبر، فراجع الفتوى رقم: 135006108778. وكذلك سبق لنا بيان سبيل نجاة العبد من ذنوبه التي لا يعلمها، وذلك في الفتوى رقم: 142149 وفيها كلام واضح قيم للعلامة ابن القيم، يزيل إشكال السائل عن كلامه المنقول هنا.
ثم ننبه الأخ السائل على أن جانباً كبيراً مما يعانيه لا يعدو حد الوسوسة، فعليه أن يعرض عن هذه الوساوس، ويطرح هذه الأفكار عن نفسه ولا يسترسل معها، ولا يجعل للشيطان عليه سبيلا، فإن الوسوسة مرض شديد وداء عضال، والاسترسال معها يوقع المرء في الحيرة والشك المرضي، والضيق والحرج الشرعي. ونسأل الله تعالى أن يوفقك لأرشد أمرك، وأن يقيك شر نفسك. وراجع ما أجبناك به من قبل في الفتويين: 153439154849.
والله أعلم.