الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا يجوز التعبد بشرائع الرسالات السماوية السابقة

السؤال

هل يمكن التعبد بشعائر الأديان السماوية لأنها كلها جاءت من عند الله، نأخذ ما يفيد كلباس القبعة لأنها تفكرنا بالله؟ وشكرا

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الله تعالى قد بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وختم به الرسل، وبرسالته الغراء الرسالات، وجعل كتابه مهيمنا على ما قبله من الكتب, وأوجب على الخلق جميعا طاعته صلى الله عليه وسلم وألا يعبدوا الله إلا بما شرعه على لسانه صلى الله عليه وسلم، وكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة ورضي لهم الإسلام دينا، وجعل شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم مشتملة على مصالح الدنيا والآخرة، فلا يجوز لأحد أن يتقرب إلى الله تعالى إلا بشيء قد شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الشرائع التي قبله قد نسخت بشريعته الغراء، فمن عدل عن شريعته وتقرب إلى الله تعالى بما في الشرائع الأخرى، فقد تعبد بمبدل محرف عن مواضعه أو بمنسوخ قد أتى الله تعالى بخير منه، وليس في هذا المنسوخ ما يفيد بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إنما كان يفيد في وقته، وكونه آتيا من عند الله لا يقتضي جواز التعبد به الآن، لأن من أنزله هو الذي بين لنا أنه نسخه ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا خير لأحد البتة إلا في اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: أما بعد: فإن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق، وفرّق به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، وبين الغيّ والرشاد، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين أوليائه وأعدائه، وبين المعروف والمنكر والخبيث والطيب، والحلال والحرام ودين الحق والباطل. فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرّمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. وليس لأحد من الثقلين الإنس والجن سبيل إلى رضى الله وكرامته ورحمته إلا بالإيمان بمحمد واتّباعه، فإن الله أرسله برسالة عامة إلى جميع الثقلين الجن والإنس في جميع أمور الدين الباطنة والظاهرة بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان إلى علمائهم وعبّادهم وملوكهم وسوقتهم، فليس لأحد وإن عظم علمه وعبادته وملكه وسلطانه أن يعدل عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى ما يخالفه في شيء من الأمور الدينية؛ باطنها وظاهرها، وشرائعها وحقائقها، بل على جميع الخلق أن يتّبعوه ويسلّموا لحكمه. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65]. انتهى.

بل قد شرع الله لعباده مخالفة المشركين فيما هو من خصائصهم، وجعل التشبه بهم مذموما محرما، كما قال صلى الله عليه وسلم: ومن تشبه بقوم فهو منهم.

وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله دلائل مشروعية مخالفة المشركين في كتابه الماتع اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. فنحن نتعبد لله تعالى بترك لبس ما يلبسونه تعبدا إظهارا للبراءة منهم ومن دينهم الباطل. فهذه القبعة إن كانت من خصائصهم وكانوا يتعبدون بلبسها فنحن مأمورون باجتنابها مخالفة لهم. ومخالفتهم في هذا هو المذكر بالله الحامل على تعظيم أمره بخلاف موافقتهم فيه فإنها تتضمن مفاسد عظيمة.

وقد بين شيخ الإسلام هذه المسألة بيانا حسنا فقال رحمه الله في الاقتضاء: ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب: من اعتقادات، وإرادات، وغير ذلك، وأمور ظاهرة: من أقوال، أو أفعال قد تكون عبادات، وقد تكون أيضا عادات في الطعام واللباس، والنكاح والمسكن، والاجتماع والافتراق، والسفر والإقامة، والركوب وغير ذلك. وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يوجب للقلب شعورا وأحوالا. وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور: منها: أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة - مثلا - يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيا لذلك، إلا أن يمنعه مانع . ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام - الذي هو الإسلام، لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة - كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا وظاهرا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميز ظاهرا، بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ كان شعبة من شعب الكفر؛ فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم . فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له. انتهى.

وهذا فيما كان من الهدي الظاهر، فما عدا ذلك مما هو من شعائرهم أولى أن يتجنبه المسلم.

وهذه المسألة من الوضوح بحيث لا تستدعي تطويلا، لولا ما آل إليه الأمر من غربة الدين، فمما يؤسف له خفاؤها عن كثير من المسلمين بحيث تجاوز الأمر مجرد اعتقاد جواز فعل ما هو من خصائصهم إلى حد السؤال عن جواز التعبد به والتقرب به إلى الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني