الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الذهبي إمام عصره وفريد دهره في مجاله وعلمه, والتاج السبكي نفسه مقرٌّ له بذلك, وهو القائل " أما أستاذنا أبو عبد الله، فبصر لا نظير له، وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود حفظًا، وذهب العصر معنىً ولفظًا، وشيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كل سبيل، كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد، فنظرها، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها, وهو الذي خرجنا في هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة "
وغاية ما يقال: إن هذا الكلام من التاج السبكي زلة قلم, حملها عليه حبه لأهل مذهبه وطائفته, فظن أن الذهبي نقصهم حقهم إذ لم يطول تراجمهم, والأصل في مثل هذا الكلام أن يقال:
أولاً: إن كلام الأقران في بعضهم يطوى ولا يروى, إلا ما كان مبنيًا على نقد علمي مؤصل ومقبول.
ثانيًا: إن العلماء بشر, والخطأ عليهم واقع, لكن لا ينبغي أن يكون اتهامهم بالخطأ فيما ليس فيهم, أو فيما هم فيه مصيبون.
فقد ذكر السخاوي في كتابه " الإعلان بالتوبيخ " منتقدي التاريخ وذكر مراتبهم الستة، وذكر المرتبة الخامسة فقال :" ومنهم من نسب بعضهم إلى التقصير والتعصب ؛ حيث لم يستوعب القول فيمن هو منحرف عنهم، بل يحذف كثيرًا مما يراه من ثناء الناس عليهم, ويستوفي الكلام فيمن عداهم غير مقتصر عليهم" , ثم قال في نقد هذه المرتبة بعد عدة صفحات :" فالذي نسب الذهبي لذلك هو تلميذه التاج السبكي، وهو على تقدير تسليمه إنما هو في أفراد مما وقع التاج في أقبح منه.
قلنا: حاشا المؤرِّخ، النَّقَّاد، الإمام الذهبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يكون هذه منهجه في تواريخه: الكبيرة، والصغيرة. والسّبكي من تلاميذه، وينقل من كتابه: "سير أعلام النبلاء"، في "طبقاته"، وهو أعلم بمنهجه، فيكف يقول مثل هذا؟! إنَّ سير أعلام النبلاء موسوعة فريدة في باب التراجم، لا يكاد يترك شيئًا من حياة المترجم – ولا سيّما الكبار – إلا وذكره, ونراه يتكلم على تراجم الرجال ، وما غمز أحدًا، ولا أزرى بأحدٍ ممن خالفهم، ولو في العقيدة – وحاشاه - بل يتكلم على بدعة المبتدع بما يليق بحاله، دون إفراطٍ ولا تفريطٍ.
قال الشوكاني في: "البدر الطالع" (ص 627) عن مصنفات الذهبي: «جميع مصنفاته مقبولة، مرغوب فيها, رحل الناس لأجلها، وأخذوها عنه، وتداولوها، وقرؤوها، وكتبوها في حياته، وطارت في جميع بقاع الأرض, وله فيها تعبيرات رائقة، وألفاظ رشيقة غالبًا, لم يسلك مسلكه فيها أهل عصره، ولا من قبلهم، ولا من بعدهم, وبالجملة: فالناس في التاريخ من أهل عصره فمن بعدهم عيال عليه, ولم يجمع أحد في هذا الفن كجمعه، ولا حرره كتحريره».
ويقول (ص 627): «وقد أكثر التشنيع عليه تلميذه السّبكي، وذكر في مواضع من "طبقاته للشافعية", ولم يأت بطائل, بل غاية ما قاله: إنَّه كان إذا ترجم الظاهرية والحنابلة أطال في تقريظهم، وإذا ترجم غيرهم من شافعي، أو حنفي لم يستوف ما يستحقه, وعندي أنَّ هذا كما قال الأول: "وتلك شكاية ظاهر عنك عارها", فإنَّ الرجل قد ملئ حبًّا للحديث، وغلب عليه فصار الناس عنده هم أهله، وأكثر محققيهم وأكابرهم هم من كان يطيل الثناء عليه، إلا من غلب عليه التقليد، وقطع عمره في اشتغال بما لا يفيد" انتهى حكم القاضي الشوكاني، بين الأستاذ وتلميذه, وكما رأينا، فكلامه نموذج من الإنصاف العلمي.
وقد دافع الدكتور بشّار عوّاد في : "الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام" عن الذهبي بكلام علمي رصين, وعلق على قول السبكي السابق: "كان شديدَ المَيْلِ إلى آراء الحَنابِلة، كثيرَ الإِزراءِ بأهل السُّنّة" في (ص 464): «ولم يكن الذهبي متعصبًا للحنابلة، بالمعنى الذي صوّره السبكي, فالرجل كان محَدِّثًا، يُحب أهل الحديث ويحترمهم», وقال (ص 462): «ولو قال السبكي: إنَّه كان يتعصب على الأشاعرة وحسب، لوجد بعض الآذان الصاغية، ولبحث له المؤيدون عن بضعة نصوص قد تؤيد رأيه, علمًا أنَّي بحثت في: "تاريخ الإسلام" ولم أستطع أنْ أحصل على مثلٍ يَصْلُح أنْ يُسَمَّى انتقادًا لأشعري, نعم، قد نجد بعض تقصير في تراجم قسم من الأشاعرة، قد جاء من عدم قيام الذهبي بنقل آراء المخالفين بتوسع، حبًّا منه للعافية».
وللفائدة فهناك كتاب حسن في بابه وهو " قواعد في التعامل مع العلماء " لعبد الرحمن اللويحق فيحسن قراءته.
والله أعلم.