الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهة حول موت النبي صلى الله عليه وسلم متأثرا بالشاة المسمومة

السؤال

عندي إشكالية حول موت الرسول صلى الله عليه وسلم مسمومًا وقبل عرض الإشكالية أقول:
أولًا: القرآن الكريم كتاب محفوظ من عند الله, فلا يدخله التحريف, بل هو محفوظ - ولله الحمد -, أما الأحاديث فمنها الصحيح, ومنها الضعيف, مهما كان الراوي؛ لأنه ليس محفوظًا من الله, وهذا الشيء متعارف عليه, لكني أجد أن بعض الشيوخ - هداهم الله – إن وجدوا أي حديث صحيح - خاصة في البخاري ومسلم - حتى لو تم لاحقًا اكتشاف أنه خاطئ يصرون على صحته, ويوجد أكثر من حديث أجد أن فيها إشكالية, وأهمها ما ورد في صحيح البخاري - رحمه الله - في رواية موت الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول في مرضهِ الذي مات فيه: يا عائشةُ، ما أزال أجدُ ألمَ الطعامِ الذي أكلتُ بخيبرَ، فهذا أوانُ وجدتُ انقطاعَ أبهرَي من ذلكِ السُمِّ), وهنا شيء هام وخطير: كيف تم تصحيح هذا الحديث, والله تبارك وتعالى يقول: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)؟ فالمعنى: أن رسول صلى الله عليه وسلم كذب - وحاشاه - فالوتين هو الأبهر.
وهناك حديث آخر صحيح رواه أبو داود عن أبي سلمة, وهو أكثر إشكالية من هذا – وللأسف -: (كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقبَلُ الهديَّةَ, ولا يأكلُ الصَّدقةَ, زادَ: فأهدت لهُ يهوديَّةٌ بخيبرَ شاةً مَصليَّةً سمَّتْها, فأكلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ منها, وأكلَ القومُ, فقالَ: ارفعوا أيديَكُم فإنَّها أخبرتني أنَّها مسمومةٌ, فماتَ بِشرُ بنُ البراءِ بنِ معرورٍ الأنصاريُّ, فأرسلَ إلى اليهوديَّةِ ما حملكِ على الَّذي صنعتِ؟ قالت: إن كنتَ نبيًّا لم يضرَّكَ الَّذي صنعتُ, وإن كنتَ ملِكًا أرحتُ النَّاسَ منكَ, فأمرَ بها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقُتلت, ثمَّ قالَ في وجعِهِ الَّذي ماتَ فيهِ: ما زلتُ أجدُ منَ الأُكْلَةِ الَّتي أكلتُ بخيبرَ, فهذا أوانُ قطعَت أبْهَري), وهذا شيء خطير أيضًا, فهو يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعصمه الله من الناس, بل معناه أنه ليس نبيًا, أو تقوّل على الله تبارك وتعالى للآية السابقة, ولقوله عز وجل:(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فيجب تكذيب الحديثين, أو إيضاح هذه الإشكالية الخطيرة للعامة, فالحديثان معناهما:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم تقوَّل على الله تبارك وتعالى.
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعصمه الله من الناس.
وهذان الأمران يتنافيان مع الآيتين تمامًا, فأتمنى الإيضاح لي وللعامة.
شكرًا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الثابت من نصوص الأحاديث النبوية لا يتعارض مع القرآن, كيف والله عز وجل يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {النجم:3-4}، وأما موت النبي صلوات الله وسلامه عليه من أثر السم فهو أمر ثابت مشهور, وراجع في ذلك الفتوى رقم: 50756.

وجاء في لطائف المعارف: أول مرضه كان صداع الرأس, والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمى اشتدت به في مرضه، فكان يجلس في مخضب, ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن, يتبرد بذلك، وكان عليه قطيفة فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها, فقيل له في ذلك؟ فقال: إنا كذلك يشدد علينا البلاء يضاعف لنا الأجر, وقال: إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق, وحصل له ذلك غير مرة, فأغمي عليه مرة وظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه, فلما أفاق أنكر ذلك، وقال: إن الله لم يكن ليسلطها عليّ, يعني: ذات الجنب, ولكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر, يعني: أنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية فأكل منها يومئذ, فكان ذلك يثور عليه أحيانًا, فقال في مرض موته: ما زالت أكلة خيبر تعاودني فيها أوان انقطاع أبهري, وكان ابن مسعود وغيره يقولون: إنه مات شهيدا من السم. اهـ.

وقد وفق أهل العلم بين هذا وبين آية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ {المائدة:67}، فذكروا أنه معصوم من القتل على وجه القهر والغلبة, وأنه بعد هذه الأكلة مكث سنين يجاهد حتى فتح الله عليه الفتوحات, وآمن اهل الجزيرة, وبقي أثر السم حتى أكرمه الله بالشهادة بسببه.

قال ابن مفلح في الآداب: قال بعض أصحابنا: فلما احتجم من السم بقي أثره مع ضعفه؛ لإرادة الله تكميل مراتب الفضل كلها له صلى الله عليه وسلم, فظهر تأثير ذلك الأثر لما أراد الله إكرامه بالشهادة, وظهر سر قوله تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}, فجاء (كذبتم) بالماضي لوقوعه وجاء (تقتلون) بالمستقبل لتوقعه - كذا قال -, وقال أبو البقاء وغيره: إنما قال: (تقتلون) لتوافق رءوس الآي, وقال المهدي وغيره: ليدل على أن ذلك من شأنهم أبدًا, وقد قال تعالى:{والله يعصمك من الناس}, والمراد من القتل, فلا يرد كونه أوذي, أو أن الأذى كان قبل نزول الآية, ذكر ابن الجوزي وغيره هذين الجوابين, وهذه الآية توافق قوله صلى الله عليه وسلم لليهودية: {ما كان الله ليسلطك على ذلك أو عليّ} كذا قالت اليهودية واليهود: إن كنت نبيًا لم يضرك, وعلى هذا فيكون ما روي من وجود الألم وانقطاع الأبهر من السم مرسل, أو منقطع, أو يقال: إنه خلاف الأشهر, فالقول بالأشهر المتفق على صحته أولى مع موافقته للكتاب العزيز, وصاحب القول الآخر يقول: هذه مرتبة كمال قد صحت بها الرواية, ولا مانع من القول بها, والمراد بالعصمة من القتل بالآية والخبر على وجه القهر والغلبة والتسليط, وهذا لم يقع, وأن المراد من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام محفوظ آمن مما لم يحفظ منه غيره ولم يأمن, ولهذا في الصحيحين من حديث جابر: "أنه لما نام وجاء أعرابي فاخترط سيفه, فاستيقظ عليه السلام والسيف في يد الأعرابي, فقال: تخافني؟ فقال: لا, قال: فمن يعصمك مني, قال: الله" ولهذا مات بعض من أكل معه من الشاة, وقصدت اليهودية أنه إن لم يكن نبيًا أنه يموت, وعاش هو صلى الله عليه وسلم سنين على حاله قبل الأكل يتصرف كما كان فلم تقتله اليهود بفعلها كما قتلت غيره, وأحسن الله سبحانه صنيعه إليه على جاري عادته تعالى, فأظهر أثرًا بعد سنين إكرامًا له بالشهادة, ولا تعارض يبن الأدلة في ذلك, والتوفيق بينها أولى, والله أعلم. اهـ

وقد أطنب ابن كثير في التفسير في بيان حفظ الله لنبيه صلي الله عليه وسلم في سائر حياته الدعوية فقال - رحمه الله -: ومِن عصمة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: حفْظُه له من أهل مكة، وصناديدها، وحسَّادها، ومُعَانديها، ومترفيها، مع شدة العداوة والبِغْضة ونصب المحاربة له ليلًا ونهارًا، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب؛ إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم, لا شرعيَّة، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله عز وجل له الأنصار، فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة -، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما همَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء: كاده الله، ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر: حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر: أعلمه الله به، وحماه الله منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًّا، يطول ذِكْرها. أهـ.

وقال النووي في شرح مسلم في شرحه لحديث الشاة المسمومة: فيه: بيان عصمته صلى الله عليه و سلم من الناس كلهم، كما قال الله: (والله يعصمك من الناس), وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته مِن السم المهلك لغيره ، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو منه له، فقد جاء في غير مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذراع تخبرني أنها مسمومة). أهـ.
وأجاب بعضهم بأن الله تعالى ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم العصمة من القتل حال التبليغ فقط, جاء في تفسير القرآن للشيخ ابن عثيمين: فإن قيل: كيف يصح قول الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا؛ لأن اليهود كانوا سببًا في قتله، وقد قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس}؟ فالجواب: المراد بقوله تعالى: {يعصمك من الناس}: حال التبليغ؛ أي: بلغ وأنت في حال تبليغك معصوم، ولهذا لم يعتد عليه أحد أبًدا في حال تبليغه، فقتله. أهــ.

وقال الألوسي في تفسيره: والمراد بالعصمة من الناس: حفظ روحه عليه الصلاة والسلام من القتل والإهلاك، فلا يرد أنه صلى الله عليه وسلم شج وجهه الشريف, وكسرت رباعيته يوم أحد، ومنهم من ذهب إلى العموم, وادعى أن الآية إنما نزلت بعد أحد، واستشكل الأمران بأن اليهود سموه عليه الصلاة والسلام حتى قال: « لا زالت أكلة خيبر تعاودني, وهذا أوان قطعت أبهري» وأجيب بأنه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحي، وأما ما فعل به صلى الله عليه وسلم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال والبلاد والأنفس، ولا يخفى بعده. اهـ

وأما آية الحاقة فمعناها أنه لو كذب على الله لعاجله الله بالعقوبة, وهذا لم يحصل قطعًا, فإنه أطال الله عمره وحفظه حتى أكمل الله الدين وفتح الفتوح, فقد قال ابن كثير في معناها: لو كان كما يزعمون مفتريًا علينا، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئًا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة. اهـ.

وقال السعدي: فلو قدر أن الرسول - حاشا وكلا - تقول على الله لعاجله بالعقوبة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر؛ لأنه حكيم، على كل شيء قدير، فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه, فإذا كان الله قد أيد رسوله بالمعجزات، وبرهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات، ونصره على أعدائه، ومكنه من نواصيهم، فهو أكبر شهادة منه على رسالته. اهـ.

فالآية تفيد معاجلة العقوبة إذا حصل التقول على الله, وهذا لم يحصل, فإنه تأخر موته صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات بعد فتح خيبر حتى أسلم الناس وجاء نصر الله والفتح, وليس في الآية ما يفيد أنه لن يموت أو يقتل إلا إذا افترى وتقول على الله تعالى, وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 54814 - 58733 - 56186.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني