الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما زال أهل البدع يكيدون لأهل السنة عموما، ويطعنون في أئمتهم، ويبهتونهم بما ليس فيهم، ويفترون عليهم ما لم يقولوه؛ ولعل أوفرهم نصيبا من ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، حسدًا لما فضحهم وكشف زيفهم في كتابه العظيم الفذّ: ((منهاج السُّنَّة)).
والمبتدعة يستغلون جهل الناس، وأنهم لن ينشطوا لتتبع ما ينسبونه لابن تيمية، وأنَّ الناس سيتلقون ما يسوِّدون به فضاء الإنترنت بالقبول، فتجدهم ينسبون لابن تيمية عقائد وأقوالاً، ثم لا يحيلون على كتبه التي يزعمون أنهم أخذوا منها، وإذا أحالوا فإنهم يتلاعبون بالعبارات، وينزعون الألفاظ من سياقاتها ليموِّهوا على الأغرار، وهذا خلل كبير في منهج البحث العلمي القائم أساسًا على التوثيق، والتيقُّن من صحة نسبة القول لصاحبه.
وإذا علمتَ أن مذهب بعض المبتدعة في الصفات هو نفسه مذهب المعتزلة، الذين ينفون عن الله تعالى جميع الصفات، وينعِتون المثبتين لها على الوجه اللائق بالله تعالى بالمُجَسِّمة، والحشوية، وغير ذلك من الألقاب المُنَّفِّرة، تبيَّن لك سبب بهتانهم لابن تيمية بأنه على عقيدة اليهود! - حاشاه رحمه الله وغفر له - وذلك لأن اليهود يفاخرون بأن النَّبي الذي يزعمون اتباع مِلَّته موسى على نبيِّنا وعليه الصلاة والسلام، فاز بأن كلَّمه الرحمن سبحانه وتعالى بحرف وصوت، وسمعه موسى عليه السلام، كما أن الله تعالى خصَّه بأن كتب له التوراة بيده سبحانه وتعالى. ولما كان هؤلاء المبتدعة لا يثبتون لله تعالى كلامًا ولا يدًا، كان من يثبتهما لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى معتقدًا عقيدة اليهود!
ولمَّا كان الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية قد حرَّر أن اعتقاد السلف -رحمهم الله تعالى- في صفات الباري عزَّ وجلَّ هو الإثبات لا النفي، كان ابن تيمية عندهم مصحِّحًا لاعتقاد اليهود، إن لم يكن يهوديًا ظاهرًا وباطنًا - حاشاه من ذلك -.
وأما التوراة المنزلة من عند الله تعالى، فلا يجوز التعبُّد لله تعالى بها بعد مبعث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم، لا عند ابن تيمية ولا عند غيره؛ فهي منسوخة بالقرآن وشريعةِ الإسلام، وأما ما بيد اليهود الآن مما يزعمون أنه التوراة، فليس هو ما أنزل من عند الله لما طاله من التحريف والتبديل. وليس معنى ذلك أن جميع ما فيه باطلٌ، فإن فيه بقايا من الوحي مما لم تطله يد التحريف كرجم الزاني المحصن وغير ذلك؛ وانظر الفتويين: 14742 / 68185.
ثم إن النص الذي نقله ذلك المبتدع من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية المسمى: ((درء تعارض العقل والنقل)) (ج7/ص88)، والذي زعم أن اسمه: (العقل في فهم القرآن) كان في سياق الرد على فخر الدين الرازي الذي يُنكِر صفة العلوِّ لله تعالى، وقد ردّ عليه شيخ الإسلام من وجوه كثيرة، واستقصى في إيراد الحجج النقلية والعقلية، وأثناء الردِّ استطرد كثيرًا - كعادته - فتناول التوراة وما ورد فيها مما يؤيده القرآن، كإثبات بعض الصفات التي يعتقد النفاة للصفات من المعتزلة ومن وافقهم أن في إثباتها تشبيهًا وتجسيمًا، وإثبات الجهة، وتكلُّم الله بالصوت، وخلق آدم على صورته، وأمثال هذه الأمور. ولكنه - رحمه الله - لم يقل أبدًا: إن كلَّ ما في التوراة صحيح، ولا أنّها حجة، ولم يصحح اعتقاد اليهود مطلقًا.
وتتمة كلام شيخ الإسلام بعد هذا الموضع الذي نقله ذلك الرافضي: "... فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدَّلته، كان إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وبيان ذلك، أَولى من ذكر ما هو دون ذلك، فكيف والمنصوصُ عنه موافق للمنصوص في التوراة؟ فإنك تجد عامة ما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات، موافقًا مطابقًا لما ذُكر في التوراة، وقد قلنا قبل ذلك إن هذا كله مما يمتنع في العادة توافق المخبرِين به من غير مواطأة. وموسى لم يواطئ محمدًا، ومحمدٌ لم يتعلم من أهل الكتاب. فدل ذلك على صدق الرسولَين العظيمَين، وصِدْقِ الكتابَين الكريمين. وقلنا: إن هذا لو كان مخالفًا لصريح المعقول، لم يتفق عليه مثل هذين الرجلين، اللذين هما وأمثالهما أكمل العالمين عقلاً، من غير أن يستشكِل ذلك وليُّهما المُصدِّق، ولا يعارض بما يناقضه عدوُّهما المكذِّب، ويقولان: إن إقرار محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب على ذلك، من غير أن يبين كذبهم فيه، دليلٌ على أنه ليس مما كذبوه وافتروه على موسى ...)) ا.هـ. في كلام كثير نفيس.
وأما تشنيع ذلك المبتدع على شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم إقرار بعض أحبار اليهود على اعتقادهم في الله تعالى، فلا اعتبار له؛ لأن الخبر في ذلك ثابت في الصحيحين؛ وانظر الفتوى رقم: 122213.
وكون شيخ الإسلام ابن تيمية ينفي عن جميع اليهود القول بأن عزيرًا ابن الله تعالى، وأن ذلك ثابت عن طائفة منهم فقط، ليس فيه تصحيح اعتقاد سائرهم؛ لأن كفر اليهود لم يكن منحصرًا في اعتقاد الولد لله تعالى، بل كان كفرهم من وجوه كثيرة كتكذيب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتحريف التوراة، وقتلهم الأنبياء وغير ذلك. وانظر الفتوى رقم: 3920.
وهناك مسألة يجب التنبه لها عند قراءة كلام مقتبس من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي أنه- رحمه الله تعالى- ينقل أحيانًا بعض مقالات الزائغين بتمامها، ثم يكرُّ عليها ردًا وتفنيدًا، ثم يأتي من لا يعلم الخبر فينسب تلك المقالات لابن تيمية وكأنه منشئها لمجرد وجودها في بعض كتبه، وليس الأمر كذلك، بل هو ناقل.
هذا، ونحذِّرك أيها الأخ الفاضل الكريم من غشيان مواقع المبتدعة والنظر في كلامهم؛ فإنه يقسي القلب ويورث الشبهة؛ فقد كان السلف -رحمهم الله تعالى- ينهون عن مجالسة أهل البدع أشد النهي؛ ولمزيد بيان انظر الفتوى رقم: 66332.
والله أعلم.