الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم أكل لحوم المطاعم الأجنبية كماكدونالدز

السؤال

ما حكم الأكل من المطاعم الموجودة في بلاد المسلمين، والتي تستورد دجاجها من الخارج, خصوصًا أني بدأت أوسوس كثيرًا في هذه الأمور, وبدأت أتجنب أكثر المطاعم، حتى أني أتجنب الدجاج الموجود في المطاعم في تلك البلاد خوفًا من أن يكون مستوردًا, وكثيرا من أكل البيت يوضع معه مكعبات ماجي المخلوطة بدهن وقطع الدجاج, وهي مستوردة أيضًا, فهل أعتبر أن جميع الدجاج واللحم المستورد من الخارج حلال؟ وأن الذنب يكون على المستورد الذي أتى به؟ خصوصًا أنهم يكتبون على العلبة حلال، فقد تعبت وبدأت بالوسوسة.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن اللحوم المستوردة من دول كافرة من غير أهل الكتاب لا إشكال في حرمتها؛ حتى يعلم أنها ذبحت ممن تحل ذبيحته، وأن الذبح قد تم بالطريقة الشرعية.

وأما اللحوم المستوردة من دول أهل الكتاب فإنها من النوازل الفقهية التي تباينت فيها أنظار العلماء المعاصرين، وذلك لأنه يكتنفها إشكالان:

إشكال يتعلق بطريقة الذبح؛ لأن المعلوم أن تلك البلدان يشيع فيها الذبح بالطرق غير الشرعية كالصعق ونحوه، ومن هنا اختلف العلماء في حكم ذبائحهم حال الاشتباه في طريقة الذبح، فذهب بعضهم إلى أنها لا تحل حتى يتبين أنها ذبحت بطريقة شرعية؛ لأن الأصل في اللحوم التحريم حتى يثبت حلها، وهذا اختيار الشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ صالح الفوزان في كتابه: الأطعمة.
وذهب آخرون إلى حلها في حال الاشتباه، باعتبار أن الأصل في ذبائح أهل الكتاب أنها حلال، وهذا اختيار الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، وانتصر لهذا القول الشيخ عبد الله آل محمود في كتابه: فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب ـ جاء في فتاوى ابن باز: ذكرتم أنكم أحجمتم عن أكل اللحوم بأنواعها لاعتقادكم بأنها لا تذبح على الطريقة الإسلامية, ولا على طريقة أهل الكتاب اليهود والنصارى, أي لا يذكر اسم الله عليها, وتسألني هل أكلها حلال أم حرام؟ والجواب: قال الله سبحانه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ـ الآية، هذه الآية أوضحت لنا أن طعام أهل الكتاب مباح لنا ـ وهم اليهود والنصارى ـ إلا إذا علمنا أنهم ذبحوا الحيوان المباح على غير الوجه الشرعي، كأن يذبحوه بالخنق, أو الكهرباء, أو ضرب الرأس, ونحو ذلك، فإنه بذلك يكون منخنقًا، أو موقوذًا فيحرم علينا، كما تحرم علينا المنخنقة والموقوذة التي ذبحها مسلم على هذا الوجه، أما إذا لم نعلم الواقع فذبيحتهم حل لنا عملًا بالآية الكريمة. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين في فتوى مطولة: الحالة الثالثة: أن نعلم أن الذبح وقع, ولكن نجهل كيف وقع, بأن يأتينا ممن تحل ذبيحتهم لحم أو ذبيحة مقطوعة الرأس، ولا نعلم على أي صفة ذبحوها، ولا هل سموا الله عليها أم لا؟ ففي هذه الحال المذبوح محل شك وتردد، ولكن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي حله، وأنه لا يجب السؤال تيسيرًا على العباد, وبناء على أصل الحل، فقد سبق: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة التي أتت بها إليه اليهودية، وأنه أجاب دعوة يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة، وفي كلتا القضيتين لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الذبح، ولا هل ذكر اسم الله عليه أم لا؟ وفي صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها -: أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومًا أتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر، فقد أحل النبي صلى الله عليه وسلم أكل هذا اللحم مع الشك في ذكر اسم الله عليه, وهو شرط لحله، وقرينة الشك موجودة, وهي كونهم حديثي عهد بالكفر، فقد يجهلون أن التسمية شرط للحل لقرب نشأتهم في الإسلام، وإحلال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مع الشك في وجود شرط الحل ـ وهي التسمية ـ وقيام قرينة على هذا الشك ـ وهي كونهم حديثي عهد بالكفر ـ دليل على إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل؛ لأن الأصل في الأفعال والتصرفات الواقعة من أهلها الصحة، قال في المنتقى بعد أن ذكر حديث عائشة السابق: وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد ـ وما يرد إلينا مما ذبحه اليهود أو النصارى غالبه ما جهل كيف وقع ذبحه، فيكون تحرير المقام فيه إجراؤه على أصل الحل، وعدم وجوب السؤال عنه. اهـ.

وهناك إشكال آخر يتعلق بحال الذابح، فإن البلاد التي تدين بدين أهل الكتاب قد يتولى الذبح فيها من ليس من أهل الكتاب - كالمجوس, والبوذيين, وغيرهم ممن لا تحل ذبائحهم - قال الشيخ ابن عثيمين: الحال الثالثة: أن لا نعلم هل ذابحه من تحل ذبيحته أو لا؟ وهذا هو الغالب على اللحم الوارد من الخارج، فالأصل هنا التحريم, فلا يحل الأكل منه؛ لأننا لا نعلم صدور هذا الذبح من أهله, لكن إن وجدت قرائن ترجح حله عمل بها, فمن القرائن:
أولًا: أن يكون مورده مسلمًا ظاهره العدالة، ويقول: إنه مذبوح على الطريقة الإسلامية فيحكم بالحل هنا؛ لأن حال المسلم الظاهر العدالة تمنع أن يورد إلى المسلمين ما يحرم عليهم, ثم يدعي أنه مذبوح على الطريقة الإسلامية.
ثانيًا: أن يرد من بلاد أكثر أهلها ممن تحل ذبيحتهم فيحكم ظاهرًا بحل الذبيحة تبعًا للأكثر، إلا أن يعلم أن المتولي الذبح ممن لا تحل ذبيحته, فلا يحكم حينئذ بالحل لوجود معارض يمنع الحكم بالظاهر, قال في المنتهى وشرحه: ويحل حيوان مذبوح منبوذ بمحل يحل ذبح أكثر أهله, بأن كان أكثرهم مسلمين أو كتابيين, ولو جهلت تسمية ذابح. اهـ.

وإذا كان الحل في هذا الحال مبنيًا على القرائن, فالقرائن إما أن تكون قوية فيقوى القول بالحل، وإما أن تكون ضعيفة فيضعف القول بالحل، وإما أن تكون بين ذلك فيكون الحكم مترددًا بين الحل والتحريم، والذي ينبغي حينئذ سلوك سبيل الاحتياط واجتناب ما يشك في حله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وقوله صلى الله عليه وسلم: الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه؛ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وفي رواية: ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان. متفق عليه. اهـ.

فالحاصل أن القول بإباحة أكل اللحوم المستوردة من دول أهل الكتاب حال الاشتباه فيها قد أفتى به علماء معتبرون، وهو قول فيه توسعة على الناس ورفع للحرج عنهم، وإن كان العمل بالقول بالتحريم أبعد عن الشبهة، وأحوط للدين، وأبرأ للذمة.

وعليه؛ فإن التعفف عن أكل اللحوم في المطاعم الأجنبية كماكدونالدز وغيره هو من قبيل الورع المحمود؛ لقوة الشبهة في حل تلك اللحوم، وليس من قبيل الوسوسة المذمومة، وأما كتابة عبارة "حلال" على اللحوم فلا ينبغي التعويل عليه؛ لكثرة الكذب من الشركات في استخدام هذه العبارة فيما لم يذك بطريقة شرعية, وراجع للفائدة الفتاوى: 129341 198339 2437.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني