السؤال
الملاحظ في فتاوى حكم شراب الشعير - باربيكان، ألماسة، فيروز، وغيرها - عدم البت، فكلها تعلق الحكم على ثبوت وجود خمر فيه, وكيف يتسنى للمسلم العامي معرفة ذلك إذا لم تكن هناك دراسة علمية من جهة موثوقة؟ وقد وجدت فتوى تنص على الحرمة, كما وجدت في بعض المواقع من يقول بحرمته لثبوت ذلك لديه, فأرجو من فضيلتكم أن تقوموا بفحص مخبري لهذا الشراب لينتفع به كثير من المسلمين، وحينها نستطيع أن نتكلم بعلم؛ لأن الفتاوى المشار إليها سابقًا لا تروي الغليل - جزاكم الله خيرًا -.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكرك على الاتصال بنا، وعلى الحرص على معرفة الحكم الشرعي في هذا الأمر - بارك الله فيك -.
ونفيدك أن الأمر لا يحتاج لفحص؛ لأن الحكم إنما يتعلق بالإسكار، فما كان مسكرًا فهو محرم، وما كان لا يسبب السكر فهو جائز, وما أسكر كثيره فقليله وكثيره حرام؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ. رواه أبو داود, وفي لفظ عند الترمذي وصححه الألباني: كل مسكر حرام، ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام. وفي رواية: الحسوة منه حرام.
قال المناوي في فيض القدير: إذا كان فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه لقلته جدًّا .. قال المازري: أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال، وعلى أنه إذا اشتد وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو تخلل بنفسه حل إجماعً ا، فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المتجددات، فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض، ودل على أن علة التحريم الإسكار، فاقتضى أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: أَمَّا الْخَمْرُ الَّتِي هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إبَاحَةَ قَلِيلِ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ، بَلْ مَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
إلى أن قال: وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي سَائِرِ الْمُسْكِرِ كَالْمِزْرِ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْ الْقَمْحِ وَنَحْوِهِ: فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عِنْدَنَا شَرَابًا يُقَالُ لَهُ: الْبِتْعُ ـ مِنْ الْعَسَلِ، وَشَرَابًا مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ ـ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ فَهُوَ حَرَامٌ ـ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ ـ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ـ وَفِي السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ ـ وَاسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَابٌ يَشْرَبُونَهُ إلَّا مِنْ التَّمْرِ، فَكَانَتْ تِلْكَ خَمْرَهُمْ، وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ ـ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيذُ الْحُلْوُ، وَهُوَ أَنْ يُوضَعَ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ ثُمَّ يَشْرَبَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الْقَرْعِ وَالْخَشَبِ، وَالْحَجَرِ وَالظَّرْفِ الْمُزَفَّتِ، لِأَنَّهُمْ إذَا انْتَبَذُوا فِيهَا دَبَّ السُّكْرُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَيَشْرَبُ الرَّجُلُ مُسْكِرًا، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُقَوِّي الْآخَرَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ فِيهِ السُّكْرُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَدْرِي، كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ يَكُونُ مُسْكِرًا يَعْنِي مِنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ وَالْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ: يُبَاحُ أَنْ يُتَنَاوَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَمَّا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي أَبَاحَهُ هُوَ الَّذِي لَا يُسْكِرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي النَّصِّ، وَالْقِيَاسِ، وَأَمَّا النَّصُّ فَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ فِيهِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَلِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي كَوْنِهَا تُسْكِرُ، وَالْمَفْسَدَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي هَذَا مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، بَلْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. انتهى.
والله أعلم.