الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دليل العلماء على نجاسة الخارج من السبيلين مطلقا

السؤال

لماذا يعد الفقهاء الخارج من السبيلين -سواء كان قليلًا أم كثيرًا، طاهرًا أو نجسًا- ناقضًا للوضوء؟ فمن قراءتي لفتاويكم لم أجد دليلًا على ذلك، وإنما الأدلة كانت على أمور معينة -مثل المذي، وريح الدبر- فلماذا رطوبات الفرج، وريح القبل ناقضة للوضوء؟
أحيانًا أشك هل خرج مني شيء أم لا، فأمضي في صلاتي، وبعد الصلاة أنظر في ذلك، فأجد شيئًا يسيرًا قد خرج، وظل في باطن الفرج لم يخرج، فأعيد وضوئي، فإذا تكرر هذا الأمر فهل لا تجب عليّ إعادة الصلاة؟ أرجو عدم إحالتي لفتاوى أخرى؛ لأنني قرأت الكثير منها والتبس الأمر عليّ -جزاكم الله خيرًا-.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالخارج من السبيلين ضربان: معتاد، وغير معتاد:

أما الخارج المعتاد -كالبول، والغائط، ونحوهما، كريح، ومذي- فناقضٌ إجماعًا، كما نقله ابن المنذر، وابن عبد البر، وغيرهما.

وأما غير المعتاد، فلعموم الأدلة، وقياسًا على المعتاد المجمع عليه، ولا شك أن الإجماع دليل معتبر، وإن لم يُعلم في المسألة نص من الشارع؛ لاستفاضة الآثار بأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وكذلك القياس دليلٌ عند جمهور أهل العلم، قال ابن قدامة في المغني: وجملة ذلك أن الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد -كالبول، والغائط، والمني، والمذي، والودي والريح-، فهذا ينقض الوضوء إجماعًا، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن خروج الغائط من الدبر، وخروج البول من ذَكر الرجل، وقُبُل المرأة، وخروج المذي، وخروج الريح من الدبر، أحداث ينقض كل واحد منها الطهارة، ويوجب الوضوء، ودم الاستحاضة ينقض الطهارة في قول عامة أهل العلم، إلا في قول ربيعة.

الضرب الثاني: نادر -كالدم، والدود، والحصا، والشعر-، فينقض الوضوء أيضًا، وبهذا قال الثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وكان عطاء، والحسن، وأبو مجلز، والحكم، وحماد، والأوزاعي، وابن المبارك، يرون الوضوء من الدود يخرج من الدبر، ولم يوجب مالك الوضوء من هذا الضرب؛ لأنه نادر، أشبه الخارج من غير السبيل.

ثم قال مستدلًّا لمذهب جمهور أهل العلم: ولنا أنه خارج من السبيل أشبهَ المذيَ؛ ولأنه لا يخلو من بِلَّة تتعلق به، فينتقض الوضوء بها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، ودمها نادر غير معتاد.

وقال النووي في المجموع: وأما أدلة الانتقاض بكل خارج من السبيلين غير المني، فكلها صحيحة ظاهرة: أما الغائط، فبنص الكتاب، والسنة، والإجماع. وأما البول، فبالسنة المستفيضة، والإجماع، والقياس على الغائط. وأما الريح، فبالأحاديث الصحيحة التي قدمناها، وهي عامة تتناول الريح من قُبُلَيِ الرجل والمرأة ودبرِهما. وأما المذي، والودي، والدود، وغيرهما من النادرات، فسنذكر دليلها في فرع مذاهب العلماء، والله أعلم.

وقال في مذاهب العلماء في الخارج من السبيلين: قد سبق أن مذهبنا أن الخارج من أحد السبيلين ينقض -سواء كان نادرًا أو معتادًا-، وبه قال الجمهور.

قال ابن المنذر: أجمعوا أنه ينتقض بخروج الغائط من الدبر، والبول من القبل، والريح من الدبر، والمذي. قال: ودم الاستحاضة ينقض في قول عامة العلماء إلا ربيعة، قال: واختلفوا في الدود يخرج من الدبر.

ثم قال مستدلًّا لنقض النادر غير المعتاد: واحتج أصحابنا بحديث علي -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المذي: "يغسل ذكره ويتوضأ"، وفى رواية: "فيه الوضوء"، وفي رواية: "يتوضأ وضوءه للصلاة". رواه البخاري، ومسلم. وعن ابن مسعود، وابن عباس -رضي الله عنهم- قالا: في الودي الوضوء. رواه البيهقي. ولأنه خارج من السبيل، فنقض، كالريح، والغائط؛ ولأنه إذا وجب الوضوء بالمعتاد الذي تعم به البلوى، فغيره أولى.

فهذه أدلة السواد الأعظم من أهل العلم في المسألة: إما الكتاب، وإما السنة، وإما الإجماع، وإما القياس.

وأما عدم انصرافكِ من الصلاة لشكِّك في خروج السائل، فهو السُّنة؛ لما في الصحيحين: شُكِيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يجد في الصلاة شيئًا، أيقطع الصلاة؟ قال: لاَ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا. وفي رواية عند مسلم: إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا. أي: فلا يخرجنّ من الصلاة.

وأما قولكِ: (وبعد الصلاة أنظر في ذلك، فأجد شيئًا يسيرًا قد خرج، وظلّ في باطن الفرج لم يخرج .. فأعيد وضوئي ..)

فإن عنيتِ بباطن الفرج ما لا يبدو بالانفراج عند الجلوس على القدمين لقضاء الحاجة، فالخارج إلى هذا الموضع غير ناقض؛ لأنه لا يزال في الباطن، فلا تجديدَ للوضوء.

وإن عنيتِ بالباطن ما يستتر عند الوقوف، ويبدو عند الجلوس لقضاء الحاجة، فالخارج إلى هذا الموضع ناقضٌ؛ لأنه من ظاهر الفرج، أو في حكمه، قال ابن حجر الهيتمي الشافعي في تحفة المحتاج في ذكر ما ينقض خروجه من أحد السبيلين: أو وصل نحو مذيها لما يجب غسله في الجنابة، وإن لم يخرج إلى الظاهر، أو خرجت رطوبة فرجها، إذا كانت من وراء ما يجب غسله، يقينًا، وإلا فلا.

فجعل الشافعية ظاهر الفرج الذي ينقض خروجُ الخارج إليه هو ما يجب غسله في غسل الجنابة، وهو في البكر ظاهر فرجها، وفي الثيب ما يبدو عند الجلوس على القدمين لقضاء الحاجة، قال النووي في المجموع: قال أصحابنا: فإن كانت بكرًا، لم يلزمها إيصال الماء إلى داخل فرجها، وإن كانت ثيبًا، وجب إيصاله إلى ما يظهر في حال قعودها لقضاء الحاجة؛ لأنه صار في حكم الظاهر، هكذا نص عليه الشافعي، وجمهور الأصحاب. اهـ.

قال الرملي في حاشية أسنى المطالب: المراد الخروج الكلي في حق الرجل، والبِكر، أما الثيب فيكفي خروجه إلى باطن فرجها الذي يظهر منها إذا قعدت متقرفصة.

وعليه؛ فإن كنتِ بكرًا، لم ينتقض وضوؤكِ إلا بالخروج الكلي إلى خارج الفرج، وإن كنتِ ثيبًا، انتقض بخروج الرطوبة إلى ما يبدو عند الجلوس لقضاء الحاجة.

ولا فرق في ذلك بين اليسير والكثير، ما دمتِ تيقنتِ خروجه.

فإن تيقنتِ أنه خرج قبل الفراغ من الصلاة، وجب عليك إعادة الوضوء وما صليتِ به بعد الحدث.

أما إن احتمل أن يكون نزل بعد تلك الصلاة، ولو احتمالًا ضئيلًا، فلا إعادة عليكِ لتلك الصلاة، لكن عليك الوضوء لما بعدها.

وأما قولك: (فإذا تكرر هذا الأمر فهل لا تجب عليّ إعادة الصلاة؟):

فإن عنيتِ بالتكرار حصول ذلك لك أكثر من مرة، فهذا حكمه حكم المرة الأولى.

أما إن كان قصدكِ بالتكرارِ الدوامَ بحيث يكون كالسلس، فهذا قد سبق بيان حكمه في الفتوى: 51282.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني