الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيجب على المسلم الإيمان بما وصف الله سبحانه به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، دون تمثيل صفات الله بصفات خلقه، ودون الخوض في كيفيتها، كما قال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {الشورى:11}.
وقد نهى السلف عن الخوض، والتعمق، والتفكر في كيفية صفات الله، فإن كيفية صفات الله هي مما اختص الله بعمله، والخوض في ذلك قد يؤدي إلى نفي الصفات وتعطيلها، قال ابن عثيمين: أما ما لا يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه، فإن التفكر فيه ضياع وقت، وربما يوصل إلى محظور، مثل التفكر في كيفية صفات الله عز وجل: هذا لا يجوز؛ لأنك لن تصل إلى نتيجة؛ ولهذا جاء في الأثر: «تفكروا في آيات الله، ولا تفكروا في ذات الله» لأن هذا أمر لا يمكن الوصول إليه، وغاية لا تمكن الإحاطة بها؛ كما قال تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ؛ فلا يجوز لأحد أن يتفكر في كيفية استواء الله عز وجل على العرش؛ بل يجب الكف عنه؛ لأنه سيؤدي إلى نتيجة سيئة؛ إما إلى التكييف، أو التمثيل، أو التعطيل - ولا بد. وأما التفكر في معاني أسماء الله فمطلوب؛ لأن المعنى كما قال الإمام مالك - رحمه الله - لما سئل: {الرحمن على العرش استوى}: كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. اهــ. وانظر الفتوى رقم: 53031.
ومن المزالق المضلة في الكلام عن صفات الله استعمال الألفاظ المجملة المحدثة التي لم ترد في النصوص، ولا كلام السلف.
قال ابن تيمية: ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان: نوع جاء به الكتاب والسنة: فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله، أو نفاه حق .
وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة، ولا اتفق السلف على إثباتها ونفيها: فهذه ليس على أحدٍ أن يوافق من نفاها أو أثبتها؛ حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول، أقر به، وإن أراد بها معنىً يخالف الرسول، أنكره، ثم التعبير عن تلك المعاني: إن كان في ألفاظه اشتباه، أو إجمال، عبر بغيرها، أو بين مرادها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيرًا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة، ومعانٍ مشتبهة. اهـ. باختصار.
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: فالواجب أن ينظر في هذا الباب - أعني باب الصفات - فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها: فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كان معنىً صحيحاً، قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة. اهـ.
وما يتعلق بصفة علو الله واستوائه: فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بأن الله عز وجل مستو على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وأنه سبحانه بائن من خلقه جل وعلا، ليس حاّلاً فيهم، كما قَالَ عُثْمَان الدَّارمِيّ فِي كتاب النَّقْض على بشر المريسي: قد اتّفقت الْكَلِمَة من الْمُسلمين أَن الله فَوق عَرْشه فَوق سماواته. اهـ. وكما قال ابن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي، وَأَبا زرْعَة عَن مَذَاهِب أهل السّنة، فَقَالَا: أدركنا الْعلمَاء فِي جَمِيع الْأَمْصَار، فَكَانَ من مذاهبهم أَن الله تَعَالَى على عَرْشه، بَائِن من خلقه، كَمَا وصف نَفسه فِي كِتَابه، وعَلى لِسَان رَسُوله، بِلَا كَيفَ. اهـ. وانظر حول صفة العلو والاستواء الفتويين: 101609 66332.
وأما ما يتعلق بكلمة الحد: فلم ترد في الشرع نفيًا، ولا إثباتًا، وهي كلمة مجملة، قد يراد بها حق، وقد يراد بها باطل، قال ابن عثيمين - رحمه الله -: وكلمة (الحد) من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب، ولا في السنة، فليس في الكتاب أن الله يحد، ولا أنه لا يحد، ولا في السنة أن الله يحد، ولا أنه لا يحد.
وإذا كان كذلك، فالواجب السكوت عن ذلك، فلا يقال إنه يحد، ولا إنه لا يحد، وليس هناك ضرورة أن نقول: إنه يحد أو لا يحد، ولو كان من الضروري أن نعتقد أن الله يحد أو لا يحد؛ لبينه الله تعالى، أو بينته السنة؛ لأن الله تعالى يقول: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ {النحل:89}،
ولذلك اختلف كلام من تكلم به من السلف في: هل الله يحد أو لا يحد؟ فمنهم من أنكر الحد، وقال: إنه لا يجوز أن نقول إن الله محدود، ومنهم من قال: يجب أن نقول إن الله محدود، وأن له حدًّا، ولكن يجب أن نعلم أن الخلاف يكاد يكون لفظيًا؛ لأنه يختلف باختلاف معنى الحد المثبت والمنفي.
فمن قال: إن الله محدود أراد أنه بائن من الخلق، ومحاد لهم، ليس داخلاً فيهم، ولا هم داخلون فيه، كما نقول: هذه أرض فلان، وهذه أرض فلان، كل واحدة منهما محدودة عن الأخرى، أي بينهما حد، فمن أثبت الحد أراد به هذا المعنى: أي أن الله تعالى منفصل بائن عن الخلق، ليس حالًّا فيهم، ولا الخلق حالُّون فيه، وهذا المعنى صحيح.
ومن قال: إنه غير محدود أراد أن الله تعالى أكبر من أن يحد، ولا يحده شيء من مخلوقاته، ولا يحصره شيء من مخلوقاته، فقد وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يمكن أن يحده شيء من المخلوقات، وهذا المعنى صحيح، وكل السلف متفقون على هذا، وعليه؛ فيكون الخلاف بينهم لفظيًا بحسب هذا التفصيل. اهـ. وراجع للتفصيل حول الحد الفتوى رقم: 118156.
وكذلك: لفظ المماسة: لم يرد إثباته ولا نفيه في نصوص الوحي، فالصواب هو الإمساك عنها، قال ابن عثيمين: هل استوى الله على العرش بمماسة أو بغير مماسة؟ الجواب: أن نقول: السؤال عن هذا بدعة، وليس لنا أن نقول بمماسة أو غير مماسة، بل نقول: استوى، ولا نتجاوز القرآن والحديث؛ لأن هذه الأمور الغيبية لا يجوز للإنسان أن يسأل عن شيء إلا عن معناها فقط، أما عن كيفيتها وما زاد عن المعنى فلا يحل لنا أن نبحث فيه؛ لا سؤالاً ولا إجابةً.
ولهذا نقول: لقد أخطأ بعض العلماء الذين قالوا: إن الله استوى على العرش بدون مماسة، وأنه ليس لهم الحق أن يقولوا بمماسة أو بدون مماسة؛ لأن ذلك لم يرد، بل ندع هذا، وليسعنا ما وسع الصحابة الذين هم أحرص منا على العلم، وأشد منا تعظيمًا لله عز وجل.
وعلى هذا فكلمة مماسة أو غير مماسة يجب أن تلغى وتحذف. اهـ. وقد فصلنا القول في هذا في الفتوى رقم: 135889.
والله أعلم.