الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال السيوطي في حاشيته على سنن ابن ماجه: قوله: علم لا ينفع ـ أي لا يهذب الأخلاق الباطنة فيسري منها إلى الأفعال الظاهرة، ويحصل بها الثواب الآجل. اهـ.
وقال المناوي في التيسير: هو ما لا يصحبه عمل، أو ما لم يؤذن في تعلمه شرعا، أو ما لا يهذب الأخلاق. اهـ.
وقال في فيض القدير: قال الحافظ ابن رجب: هذا كالسحر وغيره من العلوم المضرة في الدين أو الدنيا، وقد ورد تفسير العلم الذي لا ينفع بعلم النسب في مرسل رواه أبو داود في مراسيله ـ وأقول: هذا وإن كان محتملا، لكن أقرب منه أن يراد في الحديث المشروح العلم الذي لا عمل معه، فإنه غير نافع لصاحبه، بل ضار له، بل يهلكه، فإنه حجة عليه. اهـ.
وقال القاري في مرقاة المفاتيح: قال الطيبي: أي علم لا أعمل به ولا أعلم الناس، ولا يهذب الأخلاق والأقوال والأفعال، أو علم لا يحتاج إليه في الدين، أو لا يرد في تعلمه إذن شرعي، وقال الغزالي: العلم لا يذم لذاته، لأنه من صفات الله تعالى، بل لأسباب ثلاثة:
إما لكونه وسيلة إلى إيصال الضرر إليه أو الشر إلى غيره، كعلم السحر والطلسمات، فإنهما لا يصلحان إلا للإضرار بالخلق والوسيلة للشر.
وإما لكونه مضرا لصاحبه في ظاهر الأمر، كعلم النجوم، فإنه كله مضر وأقل مضاره أنه مشروع فيما لا يعني، وتضييع العمر الذي هو أنفس بضاعة الإنسان بغير فائدة غاية الخسران.
وإما لكونه دقيقا لا يستقل به الخائض فيه، كالتعليق بدقيق العلوم قبل جليلها، وكالباحث عن الأسرار الإلهية، إذ تطلع الفلاسفة والمتكلمون إليها ولم يستقلوا بها... اهـ.
وقال ابن القيم في الفوائد: العلم نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس.. فإن كان الثابت في النفس مطابقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح.. وهو نوعان:
نوع تكمل النفس بإدراكه والعلم به، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وكتبه وأمره ونهيه.
ونوع لا يحصل به للنفس كمال، وهو كل علم لا يضر الجهل به، فإنه لا ينفع العلم به وكان النبي يستعيذ بالله من علم لا ينفع، وهذا حال أكثر العلوم الصحيحة المطابقة التي لا يضر الجهل بها شيئا، كالعلم بالفلك ودقائقه ودرجاته وعدد الكواكب ومقاديرها، والعلم بعدد الجبال وألوانها ومساحتها ونحو ذلك.. اهـ. بتصرف يسير.
وعلى ذلك، فطلب المسلم للعلوم الكونية والمدنية إن لم يقترن بنية صالحة وغاية صحيحة، فهو داخل في العلم الذي لا ينفع صاحبه في الآخرة، وإن كان قد ينفعه في الدنيا، بخلاف من احتسب في طلب هذه العلوم ونوى نفع نفسه ونفع أمته وتقويتها وكفايتها ما تحتاجه في هذا المجال، فهو مأجور، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 122837.
وأما دخول ذلك في صيرورة الدنيا أكبر الهم؟ فهذا يكون بحسب الحال، وتعارض طلب ذلك مع الواجبات الشرعية وإيثاره عليها، فإن مجرد هذا الطلب ـ إن لم يتعارض مع أمر الآخرة ـ لا يجعل الدنيا أكبر هم طالبه، قال القاري في مرقاة المفاتيح: ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ـ أي لا تجعل طلب المال والجاه أكبر قصدنا أو حزننا، بل اجعل أكبر قصدنا أو حزننا مصروفا في عمل الآخرة، وفيه أن قليلا من الهم فيما لا بد منه في أمر المعاش مرخص فيه، بل مستحب، بل واجب. اهـ.
وقال المناوي في فيض القدير: فإن من كانت الدنيا أكبر همه أي أعظم شيء يهتم به ويصرف كليته إليه. اهـ.
وقال ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: لا بد للإنسان من الدنيا لكن لا تكون الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه، بل يسأل الله أن يجعل مبلغ علمه علم الآخرة، أما علم الدنيا وما يتعلق بها: فهذه مهما كانت فإنها ستزول، يعني لو كان الإنسان عالما في الطب، عالما في الفلك، عالما في الجغرافيا، عالما في أي شيء من علوم الدنيا فهي علوم تزول وتفنى، فالكلام على علم الشرع علم الآخرة، فهذا هو المهم. اهـ.
والله أعلم.