السؤال
وجه شخص ما سؤالًا لعالم، وقال له: إن الشيطان يهجم عليه بالوساوس أثناء قراءة القرآن في قيام الليل، فقال له العالم: استمر في القراءة، ولا تهتم بالوساوس ولا تتوقف، ولكن كيف يهجم الشيطان على الشخص وهو يقرأ القرآن؟ ومن المعروف أن عند ذكر الله يخنس الشيطان؟ ولماذا لم يخنس عندما كان يقرأ هذا الشاب القرآن؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكر من كون الشيطان ينخنس عند ذكر الله تعالى كلام صحيح، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: «الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ». وليس معنى انخناسه امتناعه عن الوسوسة بالكلية، بل معناه أن أثره يضعف ووسوسته تقل، قال القاري في المرقاة: فإذا ذكر الله، أي: ابْنُ آدَمَ بِقَلْبِهِ، أَوْ ذَكَرَ قَلْبُهُ اللَّهَ (خَنَسَ): أَيِ: انْقَبَضَ الشَّيْطَانُ، وَتَأَخَّرَ عَنْهُ وَاخْتَفَى، فَتَضْعُفُ وسوسته، وتقل مضرته. انتهى.
وقد تعرض أبو حامد الغزالي لهذه المسألة في الإحياء فقال - رحمه الله -: بيان أن الوسواس هل يتصور أن ينقطع بالكلية عند الذكر أم لا، اعلم أن العلماء المراقبين للقلوب، الناظرين في صفاتها وعجائبها اختلفوا في هذه المسألة على خمس فرق.
فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع بذكر الله عز وجل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: فإذا ذكر الله خنس. والخنس هو السكوت فكأنه يسكت.
وقالت فرقة: لا ينعدم أصله، ولكن يجري في القلب، ولا يكون له أثر؛ لأن القلب إذا صار مستوعبًا بالذكر كان محجوبًا عن التأثر بالوسوسة، كالمشغول بهمه، فإنه قد يتكلم، ولا يفهم، وإن كان الصوت يمر على سمعه.
وقالت فرقة: لا تسقط الوسوسة ولا أثرها أيضًا، ولكن تسقط غلبتها للقلب، فكأنه يوسوس من بعد، وعلى ضعف.
وقالت فرقة: ينعدم عند الذكر في لحظة، وينعدم الذكر في لحظه، ويتعاقبان في أزمنة متقاربة، يظن لتقاربها أنها متساوقة، وهي كالكرة التي عليها نقط متفرقة، فإنك إذا أدرتها بسرعة تواصلها بالحركة، واستدل هؤلاء بأن الخنس قد ورد، ونحن نشاهد الوسوسة مع الذكر، ولا وجه له إلا هذا.
وقالت فرقة: الوسوسة والذكر يتساوقان في الدوام على القلب تساوقًا لا ينقطع، وكما أن الإنسان قد يرى بعينيه شيئين في حالة واحدة، فكذلك القلب قد يكون مجرى لشيئين. انتهى ما ذكره.
والوجه الثالث هو المستفاد من كلام القاري المتقدم نقله.
وعلى كل حال، فللذكر أثر عظيم في إذهاب الوساوس - بإذن الله -، وكلما كان العبد أكثر ذكرًا لله، وكان لسانه مواطئًا لقلبه كان إبعاد الشيطان عنه أتم، وبقدر ذكره يكون انخناس الشيطان، وبقدر غفلته يكون تسلط الشيطان عليه، وبه يندفع هذا الإشكال، ويتبين وجه هذا الأثر المروي عن ابن عباس، قال ابن القيم - رحمه الله -: وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وأمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجًا بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى، وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب؛ ولهذا سمي الوسواس الخناس، أي: يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس، أي: كف وأنقبض، قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب أبن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس. انتهى.
والله أعلم.