الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يدخل المسلمون المقصرون في الطاعات في قوله تعالى:"قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ...

السؤال

قال تعالى: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" هل يدخل في هذه الآية المسلمون المقصرون في الطاعات؟ فمثلاً: من كان يصلي صلاة لا يخشع فيها، وصلاته سريعة، وهو يصلي ويظن أنه أتى بالواجب، لكن من الممكن أن لا تقبل صلاته لقلة خشوعه، وما الحل فيمن يسهو في الصلاة كثيرًا، ويصلي بسرعة، ولا يخشع؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالإسراع في الصلاة فيه تفصيل، فبعضه مبطل للصلاة، وبعضه ليس كذلك، وكنا قد بينا شيئًا من ذلك، فراجعي فيه فتوانا رقم: 173877، بعنوان: الإسراع في الصلاة بين الصحة والبطلان.

فالمسلم الذي يصلي صلاة لا يخل بأركانها، ولو كانت سريعة، أو خالية من الخشوع، أو يقصر في بعض الطاعات نرجو ألا يكون داخلًا في الوعيد المذكور في هذه الآية؛ لأن من أتى بأركان الصلاة وواجباتها بسرعة، وبدون خشوع ـ وإن كان قد أساء ـ فإن صلاته صحيحة مسقطة للفرض، وإن كان بعض العلماء قال بوجوب الخشوع في الصلاة، فإن جمهورهم على أنه مستحب لا واجب، قال النووي في شرح المهذب: يستحب الخشوع في الصلاة والخضوع، وتدبر قراءتها وأذكارها، وما يتعلق بها، والإعراض عن الفكر فيما لا يتعلق بها، فإن فكر في غيرها، وأكثر من الفكر لم تبطل صلاته، لكن يكره، سواء كان فكره في مباح أو حرام.

وأما من يصلي صلاة سريعة تخل بركن الطمأنينة في الصلاة، ويحسب أنه يحسنها ويتمها، أو يتقرب إلى الله بعبادة فاسدة لا توافق شرع الله تعالى، فإنه يعتبر داخلًا في عموم الآية الكريمة، فلا صلاة لمن لم يطمئن فيها؛ لحديث المسيء صلاته، وفيه: ارجع فصل، فإنك لم تصل. متفق عليه.

قال النووي في المجموع: وتجب الطمأنينة في الركوع بلا خلاف؛ لحديث المسيء صلاته.

فالآية وإن كان بعض السلف قال إنها في كفرة أهل الكتاب، وبعضهم قال هي في الخوارج، فإنها تشمل ذلك كله، وما أشبهه؛ إذ العبرة بعموم لفظها لا بخصوص سببها، قال القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري بعدما ذكر أقوال السلف في الآية: وهذه الأقوال كلها تقتضي التخصيص بغير مخصص، والذي يقتضيه التحقيق أنها تشمل أهل الكتابين، وغيرهم، فهي عامة في كل من دان بدين غير الإسلام، وكل من راءى بعمله، أو أقام على بدعة.

وقال ابن كثير في التفسير: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مَقْبُولٌ وَهُوَ مُخْطِئٌ، وَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ.

وجاء في أحكام القرآن لابن العربي عند تفسيره للآية الكريمة، قال: فيها مسألة: أجاب الله عما وقع التقرير عليهم بقوله: أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا ـ لكن العلماء من الصحابة ومن بعدهم حملوا عليهم غيرهم، وألحقوا بهم من سواهم ممن كان في معناهم، ويرجعون في الجملة إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: الكفار بالله، واليوم الآخر، والأنبياء، والتكليف، فإن الله زين لكل أمة عملهم، إنفاذًا لمشيئته، وحكمًا بقضائه، وتصديقًا لكلامه.

الصنف الثاني: أهل التأويل الفاسد الدليل الذين أخبر الله عنهم بقوله: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ـ كأهل حروراء والنهروان، ومن عمل بعملهم اليوم.

الصنف الثالث: الذين أفسدوا أعمالهم بالرياء، وضيعوا أحوالهم بالإعجاب. ويلحق بهؤلاء الأصناف كثير، وهم الذين أفنوا زمانهم النفيس في طلب الخسيس. اهـ بتصرف يسير.

وقال ابن الحاج في المدخل عن عبادة الجهلة: ثُمَّ إنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ ـ الحجاج ـ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ فِي عِبَادَتِهِمْ، فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي حَجِّهِمْ، وَلَرُبَّمَا يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ حُكْمًا لِمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا {الكهف:103ـ 104} نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.

ولذلك، فإن كل من عبد الله بعبادة فاسدة يحسب أنها صحيحة، أو أنه محسن فيها فهو من الأخسرين أعمالًا، ووجه خسرانه أنه تعبّد الله بعمل فاسد، فخسر عمره وعمله، ففيه شبه ممن قال عنه علماء السلف أن الآية واردة فيهم، وله حظ منها بحسبه، فحظ الكافر منها أنه مخلد في النار، وحظ المسلم المسيء منها الوعيد، وهو داخل في المشيئة، فيمكن أن يغفر له، ويمكن أن لا يغفر له؛ لقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ {النساء:48}.

وأما علاج من يكثر سهوه، ولا يخشع في الصلاة، فيكون بالأخذ بأسباب حضور القلب، والخشوع فيها، وأهمها الاستعانة بالله، والاستعاذة به من الشيطان، ومنه الاستعداد لها، والاهتمام بها، والتأكد من إكمال الطهارة لها، وعدم التفكير في غيرها، وتدبر معاني ما يقول فيها من قراءة وأذكار.. ويستحضر أنه يقوم بين يدي ربه يخاطبه بتلاوة كلامه، ويعظمه بذكره، قال الأخضري المالكي في مختصره: فإذا أتيت إلى الصلاة ففرغ قلبك من الدنيا وما فيها، واشتغل بمراقبة مولاك الذي تصلي لوجهه، واعتقد أن الصلاة خشوع، وتواضع لله سبحانه بالقيام والركوع والسجود، وإجلال وتعظيم له بالتكبير والتسبيح والذكر، فحافظ على صلاتك، فإنها أعظم العبادات، ولا تترك الشيطان يلعب بقلبك، ويشغلك عن صلاتك حتى يطمس قلبك، ويحرمك من لذة أنوار الصلاة، فعليك بدوام الخشوع فيها، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر بسبب الخشوع فيها، فاستعن بالله، إنه خير مستعان.

وللمزيد عن تفسير الآية انظري الفتوى رقم: 25172.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني