الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفسير قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ... في ضوء العلم الحديث

السؤال

يقول الله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ـ فكيف نرد على من يقول إن الأشياء التي تخلق تخلق من أشياء حية أصلا.. فمثلا البذرة فيها خلايا حية وليست ميتة، فهي شيء حي يخرج منه شيء حي.. وأن بعض البذور تكون الخلايا فيها ميتة فلا تنبت شيئا، فهنا تصبح بذرة ميتة... وهكذا، والمني الذي يخرج من الرجل هو في الواقع خلايا حية وليست ميتة؟ وكيف نوفق بين الآية الكريمة وهذه الأمثلة؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد ذكر المفسرون في هذه الآية عدة تفسيرات، وأسندوها إلى علماء الصحب والتابعين، فمنها أنه يخرج الحيوان وهو حي من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة وهي ميتة من الحيوان وهو حي، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والزرع من الحب، والحب من الزرع، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء، وراجع في ذلك تفسير الطبري وابن كثير والقرطبي والبغوي والشوكاني، وجاء في زاد المسير في علم التفسير: ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه إخراج الإنسان حياً من النطفة، وهي ميتة، وإخراج النطفة من الإنسان، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة من الطائر، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والجمهور.

والثاني: أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان، روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء.

والثالث: أنه إخراج السنبلة الحيّة من الحبة الميّتة، والنخلة الحيّة من النواة الميّتة، والنواة الميّتة من النخلة الحية، قاله السدي، وقال الزجاج: يخرج النبات الغض من الحب اليابس، والحب اليابس من النبات الحي النامي. اهـ.

وما ذكره المفسرون القدامى بنوه على ما كان معروفا في ذلك العصر من كون المني والبيضة والحبة جمادا لا يتحرك. وأما بعد تطور العلم في العصور المتأخرة واكتشاف الحياة في المني وخلايا النبات فينبغي لنا أن نوقن أن كلام الله حق لا ريب فيه، وإن اختلف المفسرون في تصور ماهية ما أخبر الله عنه فإنه لا شك أن هناك حيا يخرج من الميت والعكس، وإن ثبت علميا أن تمثيل الأولين ليس صحيحا فلا بد أن هناك مثالا آخر فينبغي لنا البحث، وأن نعذر سلفنا لأنهم أخبروا عما أدركته المعارف آنذاك، ومن الواضح في المثال لتفسير الآية ما في التفسير المنير للزحيلي: ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ـ مثل إخراج النخلة من النواة، والطائر أو الحيوان من البيضة أو النطفة، وعكس ذلك كإخراج الحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه من الشجر والحيوان، وفي هذا دلالة عامة على إيجاد أمارات الحياة والموت وعلامة الحياة في النبات: النمو، وفي الحيوان: النمو والحركة الإرادية، وفسر بعضهم الحياة والموت بالشيء المعنوي وهو إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والأكثرون من المفسرين يفسرون الآية بالمعنى الأول، وهو إلى الحقيقة أقرب، كما قال الرازي، وإذا كان المفسرون قد مثلوا للحي بالنطفة وللميت بالبيضة، فهم يلاحظون الوضع الظاهر المشاهد للناس عادة وهي حياة الحركة والنمو، وهذا لا ينفي ما يقوله الآن علماء الأحياء بأن في البذور والبيض والمني والنطفة حياة أي حياة الخلية، لكن هذه حياة خاصة لا حركة فيها ولا نمو، ويمكن التمثيل في العلم الحديث لإخراج الميت من الحي بما يطرحه البدن من الخلايا الميتة في الدم والجلد فيخرج مع البخار والعرق، ومثال إخراج الحي من الميت الغذاء الذي يحرق بالنار، ثم يتناوله الإنسان فيتولد منه الدم. اهـ.

وجاء في تفسير المنار: ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ـ أي ومن ذا الذي يملك الحياة والموت في العالم كله، فيخرج الأحياء والأموات بعضها من بعض فيما تعرفون من المخلوقات التي تحدث وتتجدد، وفيما لا تعرفون؟ فمما كانوا يعرفون أن النبات يخرج من الأرض الميتة عد إحياء الله تعالى إياها بماء المطر النازل عليها من السماء، أو النابع منها بعد أن سلكه الله تعالى فيها، كما قال: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه {39: 21} الآية، بل كانت الحياة المعروفة عندهم قسمين: حياة النبات وآيتها النمو، وحياة الحيوان وآيتها النمو والإحساس والحركة بالإرادة، وكانوا يعدون وصف الأرض بالحياة مجازا ولم يكونوا يصفون أصول الأحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيه، ولذلك فسر بعض المفسرين إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة والطائر من البيضة وعكسهما وما يشابههما، وهو تفسير صحيح عند أهل اللغة غير صحيح عند علماء الحياة النباتية والحيوانية، وتحصل به الدلالة المقصودة من الآية على قدرة الله وحكمته وتدبيره ورحمته عند المخاطبين، وليس المراد به وضع قواعد فنية للحياة وأنواعها وتحديد وظائفها، على أنه يمكن تفسيرها بما يتفق وقواعد الفنون وتجارب العلوم التي تزداد عصرا بعد عصر، فإذا كان أهلها يثبتون أن في أصول النبات من بذر ونوى وبيض ومني حياة، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء في الأرض كلها خرجت من مادة ميتة، فإن الأرض عندهم كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس، ثم صارت ماء، ثم نبتت اليابسة في الماء، ثم تكون من الماء النبات والحيوان في أطوار سبق الكلام فيها، ويثبتون أيضا أن الغذاء من الطعام الذي يحرق بالنار يتولد منه دم، ومن هذا الدم يكون البيض والمني المشتملان على مادة الحياة، ويثبتون أيضا أن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن ويلفظه، ويتجدد فيه مواد حية جديدة تحل محل ما اندثر وخرج منه، والمراد من الآية: إثبات قدرة الخالق وتدبيره ونعمه على عباده وهو عام لا يتوقف على الفن ومحدثات العلم، بل تزيده كمالا للمؤمن المعتبر، وقد تكون حجابا لغيره تحجبه عن ربه، فالقاعدة عند علماء الحياة أن الحي لا يخرج إلا من حي، فتعين أن تكون الحياة الأولى من خلق الله الحي لذاته المحيي لغيره. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني