السؤال
هل يمكن استنتاج حسن البدعة في الدين، من تصنيف الرهبانية كبدعة في الدين، في الآية: (ورهبانية ابتدعوها) ثم مدحها وعدم ذمها، في الآية: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا)؟
وهل هذا هو دليل الإمام الشافعي (صاحب المذهب) في عرض كل بدعة على الشرع، فمنها ما يحسن، ومنها ما يقبح (بكونها بعد الاجتهاد مباحة، أو مكروهة، أو محرمة، أو مندوبة، أو واجبة)؟ وحال النفي.
فما هو إذن دليله؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف العلماء في تفسير الآية: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا {الحديد:27}، ويمكنك مراجعة زاد المسير لابن الجوزي، وغيره، ليتبين لك الأمر، وما ذكرته أحد الأقوال.
قال الرازي في مفاتيح الغيب: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ مَدَحَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الْحَدِيدِ: 27] وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ» . قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ صَارَ مَمْدُوحًا فِي مُقَابَلَةِ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ فِي الْقَسَاوَةِ وَالْغِلْظَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ كَوْنُهُ مَمْدُوحًا عَلَى الإطلاق. انتهى.
ونحو ذلك، ذكر ابن عادل الحنبلي في اللباب.
وجاء في تفسير الخازن: فإن قلت: كيف مدحهم الله بذلك مع قوله: ورهبانية ابتدعوها. قلت: إنما مدحهم الله في مقابلة ذم اليهود، ووصفهم بشدة العداوة للمؤمنين، ولا يلزم من هذا القدر أن يكون مدحاً على الإطلاق. وقيل: إنما مدح من آمن منهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فوصفهم بالتمسك بدين عيسى إلى أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمنوا به، واتبعوه. فإن قلت: كفر النصارى أشد وأغلظ من كفر اليهود، وأقبح فإن النصارى ينازعون في الإلهيات، فيدعون أن لله ولداً، واليهود ينازعون في النبوات، فيقرون ببعض النبيين، وينكرون بعضهم. والأول أقبح، فلم ذم اليهود ومدح النصارى؟ قلت: إنما هو مدح في مقابلة ذم، وليس بمدح على الإطلاق، وقد تقدم الفرق بين شدة عداوة اليهود، ولين النصارى؛ فلذلك ذم اليهود، ومدح النصارى الذين آمنوا منهم. انتهى.
ويدل على ذلك أن الله أشار إلى إباحة الطيبات بعدها.
قال الراغب الأصفهاني: قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) لما ذكر حال الذين قالوا: - إنا نصارى، وذكر أن منهم قسيسين ورهباناً، فمدحهم بذلك، وكانت الرهبانية قد حرموا على أنفسهم طيبات قد أحلَّها الله لهم، ورأى تعالى قوما سوقوا إلى حالهم، وهموا أن يقتدوا بهم، حتى رأوا أنَّ قوَماً من أصحابه عليه الصلاة والسلام همُّوا بإخصائهم، همُّوا أن يفعلوا فعلهم، وبيَّن ما دل على ما قال: (بعثت بالحنيفية السهلة). اهـ.
ونحو ذلك ذكر أبو حيان في البحر المحيط: وبهذا يظهر جواب الإشكال الذي أشرت إليه، فالرهبان لم يمدحوا مطلقاً، وإنما مدحا مقيداً، لا يستقيم معه استحسان البدع، ويبقى الأصل من كون البدع مذمومة مطلقاً. اهـ.
وانظر الفتويين: 169477، 132845.
ومن قال من أهل العلم بتقسيم البدع إلى الأحكام الخمسة، لم يُدخل البدع الشرعية في ذلك، بل يقولون: مثل إنشاء القناطر، وتصنيف الكتب، ونحو ذلك؛ وانظر الفتوى رقم: 197397.
وأما الإمام الشافعي، فلم نطلع على استدلاله على تقسيم البدع بما ذكرت، بل احتج بقول عمر-رضي الله عنه-: نعمت البدعة.
وقد بينا مقصوده-رحمه الله- بالفتويين: 121142، 74863.
والله أعلم.