الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم كثرة السؤال عن الحكمة من التشريعات

السؤال

أحاول أن أتفقه كثيرا في ديني، وأسأل كثيرا لجنة الفتوى هنا ـ جزاها الله عنا كل خير ـ ونصحني أحد أصدقائي بعدم الإكثار في السؤال عن الحكمة في كل التشريع الإسلامي، لأن هذا من كثرة السؤال الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هذا فعلا هو تفسير الحديث؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنه لا حرج في السؤال عن الحكمة من التشريع، ولا يعتبر ذلك من كثرة السؤال المذمومة، فإن معرفة مثل هذا قد يزداد بها يقين المسلم، على الحكمة الشرعية في التشريع، ولكنه ينبغي لك العلم بأن أوامر الشرع تنقسم إلى قسمين: قسم تظهر الحكمة منه وعلته، وقسم تقصر عقولنا عن إدراك الحكمة منه، بمعنى أنه غلب عليه جانب التعبد، فما غلب عليه جانب التعبد عده الشاطبي فيما يكره السؤال عنه، ومثله ما يقصر فهم السائل عنه، ولا شك أنه لا يخلو أمر من أوامر الشارع من حكمة بالغة وراءه، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وإذا لم تصل أفهامنا ولم تدرك عقولنا بجلاء الحكمة من أمر ما، فلا يعني ذلك أنه خالٍ من حكمة، فإن من شأن المسلم التسليم لأمر الله والانقياد له ولو لم تظهر له الحكمة من أمره ونهيه، فاسأل عن الأحكام والحكمة منها غير متعنت في السؤال ولا محرج لأساتذتك، وأما ما جاء من النهي في بعض النصوص كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {المائدة:101}.

وفي الحديث الذي في الصحيحين: يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.

فقد حمل أهل العلم ذلك على الأسئلة التي لا تفيد السائل ولا تنفعه في معاشه أو معاده، أو السؤال عن شيء لم يحرم فينزل تحريم بسببه، وحمله بعضهم على السؤال عن النوادر والمغيبات والأغلوطات، ولم نر من ذكر حمله على السؤال عن حكمة الشرع إلا ما ذكر الشاطبي من ذم السؤال عن علة الحكم، فيما كان من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى قال القرطبي: قال ابن عبد البر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره. اهـ.

وقال ابن حجر في فتح الباري: قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين:

أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين.

ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا، فهذا الذي ذمه السلف، ورأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدا فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى، ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه، وأشد من ذلك في كثرة السؤال، البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس، كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة، إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث، وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة. اهـ.

وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ واصفا حال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم. اهـ.

وفي كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح: فصل في كراهة السؤال عن الغرائب وعما لا ينتفع ولا يعمل به وما لم يكن ـ وذكر تحته آثارا عن الإمام أحمد منها: قال المروزي: قال أبو عبد الله: سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقلت له: أحكَمت العلم حتى تسأل عن ذا؟ ونقل أحمد بن أصرم عن أحمد أنه سئل عن مسألة في اللعان، فقال: سل رحمك الله عما ابتليت به، وقال أحمد بن جيان القطيعي: دخلت على أبي عبد الله فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ فقال: ما أحب ذلك، فقلت: أتوضأ بماء الباقلا؟ قال: ما أحب ذلك، قال: ثم قمت فتعلق بثوبي وقال: أيش تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت فقال: أيش تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت، فقال: اذهب فتعلم هذا.

قال ابن مفلح: وقد تضمن ذلك أنه يكره عند أحمد السؤال عما لا ينفع السائل ويترك ما ينفعه ويحتاجه. اهـ.

وقال السفاريني في شرح منظومة الآداب: وقال البيهقي في كتاب المدخل: كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إذا لم يكن فيها كتاب ولا سنة, وإنما سأل بالاجتهاد، لأنه إنما يباح للضرورة، ولا ضرورة قبل الواقعة، وقد يتغير اجتهاده عندها، واحتج بحديث: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ـ وقال طاووس عن عمر: لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن، وقال ابن وهب: أخبرني الفتح بن بكر، عن عبد الرحمن بن شريح، أن عمر قال: وإياكم وهذه العضل، فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها، أو يفسرها، وروي عن أبي بن كعب نحو ذلك، وقال ابن مهدي: عن حماد بن زيد، عن الصلت بن راشد، قال: سألت طاووسًا عن شيء، فقال: أكان هذا؟ قلت: نعم، فحلفني فحلفت له، فقال: إن أصحابنا حدثونا عن معاذ أنه قال: أيها الناس، لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم ههنا وههنا، وإنكم إن لم تعجلوا لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد, أو قال وفق، وروى أسامة بن زيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا الكلام، وقال البيهقي: وبلغني عن أبي عبد الله الحليمي أنه أباح ذلك للمتفقهة، ليرشدوا إلى طريق النظر، قال: والرأي, قال: وعلى ذلك وضع الفقهاء مسائل الاجتهاد، وأخبروا بآرائهم فيها... اهـ.

وقال الشاطبي رحمه الله: الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح، من ذلك قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ـ الآية: {المائدة: 101} وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قرأ: ولله على الناس حج البيت ـ الآية {آل عمران: 97} فقال رجل: يا رسول الله! أكل عام؟ فأعرض ثم قال: يا رسول الله! أكل عام ثلاثا؟ وفي كل ذلك يعرض، وقال في الرابعة: والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ولو لم تقوموا بها لكفرتم، فذروني ما تركتكم ـ وفي مثل هذا نزلت: لا تسألوا عن أشياء ـ الآية {المائدة: 101} وكره عليه الصلاة والسلام المسائل وعابها، ونهى عن كثرة السؤال، وكان عليه الصلاة والسلام يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم، وقال: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء، فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم، لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها ـ وقال ابن عباس: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم، كلهن في القرآن: ويسألونك عن المحيض {البقرة: 222} ويسألونك عن اليتامى {البقرة: 220} يسألونك عن الشهر الحرام { البقرة: 217} ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم، يعني أن هذا كان الغالب عليهم، وفي الحديث: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليه، فحرم عليهم من أجل مسألته، وقال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. اهـ.

ثم قال رحمه الله: لكراهية السؤال مواضع، نذكر منها عشرة مواضع:

أحدها: السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ وروي في التفسير أنه عليه الصلاة والسلام سئل: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: يسألونك عن الأهلة ـ الآية إلى قوله: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها {البقرة: 189} فإنما أجيب بما فيه من منافع الدين.

والثاني: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته، كما سأل الرجل عن الحج: أكل عام؟ مع أن قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت { آل عمران: 97 } قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة { البقرة: 67}.

والثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا ـ والله أعلم ـ خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: ذروني ما تركتكم ـ وقوله: وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها.

والرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهي عن الأغلوطات.

والخامس: أن يسأل عن علة الحكم، وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.

والسادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين {ص: 86} ولما سأل الرجل: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا ـ الحديث.

والسابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي، قيل لمالك بن أنس: الرجل يكون عالما بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبلت منه وإلا سكت.

والثامن: السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه ـ الآية {آل عمران: 7} وعن عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات، أسرع التنقل، ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة.

والتاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين، فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن يطلخ بها لساني.

والعاشر: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام، وفي القرآن في ذم نحو هذا: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام { البقرة: 204} وقال: بل هم قوم خصمون { الزخرف: 58} وفي الحديث: أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحدا، بل فيها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها ما يكون محل اجتهاد. اهـ باختصار من الموافقات.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني