الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فصيام رمضان فريضة من فرائض الله -عز وجل- التي افترض على عباده، ولا يجوز ترك صومه لغير عذر شرعي، كما يجب أن يكون صومه -مثل باقي العبادات- إيمانًا واحتسابًا للأجر والثواب عند الله تعالى بلا رياء ولا سمعة ..
ومن ثم فلا ينعقد نذر صومه إيمانًا واحتسابًا؛ لأن ذلك مما يجب شرعًا، وجمهور أهل العلم على أن نذر الواجب لا ينعقد، ولا تلزم منه كفارة، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 52319.
وعلى هذا؛ فمن ترك صيام رمضان لغير عذر أو صامه رياء وسمعة ليظهر للناس أنه صائم وليس بقصد ابتغاء الأجر فإنه آثم بما فعل، لكن لا تلزمه كفارة؛ لأنه ليس ثمة نذر منعقد في هذه الحالة عند جمهور أهل العلم.
وعلى من فعل ذلك أن يتوب إلى الله تعالى من هذا الذنب العظيم الذي هو من الكبائر؛ يقول الشيخ/ ابن باز -رحمه الله-: من أفطر في رمضان عمدًا لغير عذر شرعي فقد أتى كبيرة من الكبائر، ولا يكفر بذلك في أصح أقوال العلماء، وعليه التوبة إلى الله سبحانه مع القضاء، والأدلة كثيرة تدل على أن ترك الصيام ليس كفرًا أكبر إذا لم يجحد الوجوب، وإنما أفطر تساهلًا وكسلًا. اهـ.
أما من ترك الصوم لعجزه عنه: فلا شيء عليه؛ إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
وأما تحقيق الإخلاص فيه واحتساب الأجر وانتفاء الرياء: فهو واجب في كل العبادات الشرعية، ولا يتصور العجز عنه بالكلية، لذلك على المرء أن يتعاهد هذا الجانب، ويجاهد في تحقيق أعلى درجاته -ما استطاع- في كل العبادات، ومنها الصوم.
أما عن المقصود بكلمتي (إيمانًا واحتسابًا): فنحيلك إلى ما ذكره أهل العلم في شرحهما:
قال ابن بطال: قوله: (إيمانًا): يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: (احتسابًا): يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله. اهـ.
وفي فتح الباري لابن حجر: أي: مؤمنًا محتسبًا. والمراد بالإيمان: الاعتقاد بحق فرضية صومه. وبالاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى. وقال الخطابي: احتسابا: أي: عزيمة؛ وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه. اهـ.
وفي مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للمباركفوري ما نصه: (إيمانًا) تصديقًا بأنه فرض عليه حق، وأنه من أركان الإسلام، ومما وعد الله عليه من الأجر والثواب. قاله السيوطي.
قيل: نصبه على أنه مفعول لأجله؛ أي: لأجل الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بما جاء به في فضل رمضان والأمر بصيامه؛ أي: الحامل له على ذلك، والداعي إليه هو الإيمان بالله، أو بما ورد في فضله وفرضية صومه. وقيل: نصبه على الحال بأن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي: مؤمنًا يعني مصدقًا بأنه حق وطاعة، أو مصدقًا بما ورد في فضله. وقيل: نصبه على التمييز أو على المصدرية؛ أي: صوم إيمان أو صوم مؤمن.
وكذا قوله (واحتسابًا) أي: طلبًا للثواب منه تعالى في الآخرة أو إخلاصًا أي: باعثه على الصوم ما ذكر، لا الخوف من الناس، ولا الاستحياء منهم، ولا قصد السمعة والرياء عنهم.
وقال الخطابي: احتسابًا: أي: نية وعزيمة؛ وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك، غير كاره له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه، ولكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب.
وقال البغوي: قوله: احتسابا: أي: طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه، يقال: فلان يحتسب الأخبار ويتحسسها أي: يتطلبها. اهـ.
ويعلم من هذا: أن أهم ما ينافي "الإيمان والاحتساب في الصوم" هو عدم الإخلاص في الصوم لله تعالى، وعدم التصديق بفرضيته واحتساب ما جاء فيه من الأجر، وكذلك كراهية صومه واستثقاله عند من فسر الاحتساب بضد ذلك.
والله أعلم.