السؤال
توفي والدي -رحمه الله- وترك لنا من ضمن الميراث عقارًا، ونقدًا في بلد أوروبي.
وقبل النظامُ البنكي التوزيعَ الشرعي، ولكن القانون العقاري لا يعترف بالإسلام، وتعاليمه، وينص القانون على أنه إذا لم يترك المتوفى وصية، فإن التوزيع يتم بالتساوي، ولكن أعطى القانون الحرية للورثة، في إعادة التوزيع بينهم إذا أرادوا، حسب مرجعتيهم.
أخواتي يرفضن إعادة التوزيع حسب الشرع، بحجة أن التوزيع الشرعي غير عادل، وأن باب الاجتهاد مغلق منذ سنين، ولم يتم مراجعة موضوع الإرث، وتطبيقه على عصرنا الحديث، وأن القانون في بلد الخلاف أنصفهن في حقهن، وأنه لو كان لهن الاعتراض في بلدنا على التوزيع، لأقمن الدعوى بعدم عدل التوزيع، فهل يعتبرن إذا أصررن على هذا، قد أخذن حقي الشرعي، ويبقى في ذمتهن إذا لم أسامح؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فالقانون لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا، ولا يبيح لأحد أن يأخذ أكثر من حقه الشرعي في الميراث، وينتقص من نصيب الآخرين.
فالواجب على أخواتك أن يتقين الله تعالى، وأن يرضين بقسمة الله تعالى التي بينها لنا في شريعته.
وقولهن: إن القسمة الشرعية غير عادلة، لكونها أعطت الأنثى نصف ميراث الذكر. هذا كلام خطير، قد يؤدي بهن إلى الكفر -والعياذ بالله-، قال الشيخ ابن باز في هذا القول: هو نوع آخر من الكفر الصريح؛ لأنه زعم أن إعطاء المرأة نصف ما يعطاه الذكر نقص، وليس من المنطق البقاء عليه ... اهـ.
وتحكيم هذا النظام المخالف للشرع، كفر أيضًا، قال الشنقيطي في أضواء البيان عن هذه الأنظمة الجائرة: وَأَمَّا النِّظَامُ الشَّرْعِيُّ، الْمُخَالِفُ لِتَشْرِيعِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضِ فَتَحْكِيمُهُ كُفْرٌ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَدَعْوَى أَنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِإِنْصَافٍ، وَأَنَّهُمَا يَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْمِيرَاثِ. وَكَدَعْوَى أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ ظُلْمٌ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ ظُلْمٌ لِلْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ، وَالْقَطْعَ، وَنَحْوَهُمَا أَعْمَالٌ وَحْشِيَّةٌ، لَا يَسُوغُ فِعْلُهَا بِالْإِنْسَانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَتَحْكِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ النِّظَامِ فِي أَنْفُسِ الْمُجْتَمَعِ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَعْرَاضِهِمْ، وَأَنْسَابِهِمْ، وَعُقُولِهِمْ، وَأَدْيَانِهِمْ كُفْرٌ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَتَمَرُّدٌ عَلَى نِظَامِ السَّمَاءِ الَّذِي وَضَعَهُ مَنْ خَلَقَ الْخَلَائِقَ كُلَّهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُشَرِّعٌ آخَرُ، عُلُوًّا كَبِيرًا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}، {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} ... اهــ.
والقسمة الشرعية للميراث، وجعل الذكر نصيبه مثل نصيب الأنثيين، ليس من المسائل التي يدخلها الاجتهاد، وتتغير بتغير الأزمان.
فيجب على أخواتك أن يَتُبْنَ إلى الله تعالى، وليعلمن أن غمسة واحدة في جهنم، تنسي أنعم أهل الدنيا كل ما تنعم به فيها، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ، يَا رَبِّ ... الحديث.
وإذا لم تتمكن من أخذ حقك الشرعي في الميراث كاملًا، ومنعنك منه، فإنه يبقى في ذمتهن، تأخذه من حسناتهن يوم القيامة إن كان لهن حسنات، وإلا طرحْ عليهن من سيئاتك، روى البخاري، وغيره من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ .. وفي لفظ لأحمد في المسند: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ أَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ ..... اهـ.
والله أعلم.