الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم الاستعانة بخادمة بطريقة مخالفة للأنظمة

السؤال

كنت آتي بخادمات في بيتي يخدمن بالساعة، أو باليوم، ولم أكن أسألهن عن وضعهن، وفي الغالب أنهن غير نظاميات، وليست معهن إقامة،
ومؤخرًا صدرت أنظمة مشددة في دولتي من قبل وزير العمل بخصوص العمالة المخالفة، وأصبح هناك تشديد فيمن يتعامل مع المخالف، وعقوبات فيها سجن، وربما غرامة مالية، بل حتى المقيمة فإنه من المخالف أن تعمل عند غير كفيلها، وفي غير مسماها الوظيفي، بغض النظر عن العقوبات؛ لأنهم في الغالب لن يعلموا ـ إن شاء الله ـ فهل مخالفة هذه الأنظمة تعد مخالفة لولي الأمر ونأثم عليها؟ والأوامر ليست منه شخصيًا، لكنه بالتأكيد يعلم بها، ولم يضعوها إلا لتحقيق مصالح عدة، أبرزها حل مشكلة البطالة، أقول هذا لأنني قرأت في الفتاوى عندكم الفرق بين القوانين التي تظهر فيها مصلحة والتي لا تظهر، وإذا لم تكن مخالفة لولي الأمر، فهل هناك إثم من أي ناحية أخرى؟
وعلى ضوء هذه المسألة أريد فتواكم في أمر آخر، وهو أن زوجي لا يهمه أمر هذه الأنظمة لعدة أسباب، ويضغط عليّ أن أكلم خادمة مخالفة بالساعة وأتفق معها، وأنا أرفض خشية الإثم؛ لأنه ليس راضيًا عن نظافة المنزل، ولعدم مقدرتي على الطبخ كثيرًا، وحدثت خلافات كثيرة بيننا لهذا السبب، مع العلم أن أدائي مثل أداء مثيلاتي، وبعضهن أكبر مني سنًّا، وأنا أواجه صعوبة لعدة أسباب: أن منزلنا يحتاج جهدًا كبيرًا، وأنا كنت في بيت أهلي غير معتادة على كثرة الشغل لوجود الخادمات، ولأن عندي بنتًا صغيرة، ومسؤوليتها واحتياجاتها تأخذ من وقتي الكثير، وعندي مشكلة في الإنجاز حيث آخذ وقتًا طويلًا في كل شيء، كما أنني أريد أن أتفرغ لما ينفعني أكثر في ديني ودنياي، وبعد رفضي أصبحت لا أستطيع أن أطلب من زوجي المساعدة في أي شيء من أعمال المنزل، وأنا وزوجي لا نرغب في الخادمة النظامية التي تقيم سنتين، ونرى أن سلبياتها ومخاطرها على ديننا وحياتنا وابنتنا أكثر من إيجابياتها في وضعنا الحالي، فإذا كنا نأثم لمخالفة ولي الأمر، فهل المصالح والمفاسد التي ذكرتها تغلب على مفسدة المخالفة؟ وقد قال لي زوجي عندما رفضت مكالمتها: إنه سيجعل والدته تكلمها وتحضرها، لكنه يريدني أن أتابع الخادمة، وأطلب ما أريد منها فعله؛ لأنه لا أحد يمكنه ذلك غيري، فهل هناك حرج عليّ إن استجبت -جزاكم الله خيرًا-؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد ذكر أهل العلم أنه يجوز للدولة تقييد بعض المباح مراعاة للمصلحة العامة؛ لأن السلطات من وظائفها مراعاة مصالح الناس، ومنع ما يضر بهم، فالقوانين العامة التي تقيد المباح وتمنع منه يجب التقيد بها، وعدم مخالفتها، إن كان فيها مصلحة عامة للناس.

وأما إن لم يكن فيها مصلحة عامة، وكانت مجرد تعنت وتضييق على الناس، فلا يجب التقيد بالقانون حينئذ إلا في الظاهر فقط، ولا حرج في مخالفته في الباطن، جاء في حاشية الشربيني على الغرر البهية: قال في التحفة: الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهًرا فقط، بخلاف ما فيه ذلك يجب باطنًا أيضًا ـ وقوله: مما ليس فيه مصلحة عامة ـ أقول: وكذا مما فيه مصلحة عامة أيضًا فيما يظهر إذا كانت تحصل مع الامتثال ظاهرًا فقط. اهـ. وبهذا التفصيل يتبين لك حكم الاستعانة بخادمة بطريقة مخالفة للأنظمة.

وأما الحكم على النظام هل هو مما فيه مصلحة أم لا، فليس من اختصاصنا بطبيعة الحال، على أن في النص المنقول آنفًا رخصة في العمل في الباطن بما يخالف النظام الموضوع من قبل الدولة، إن كانت المصلحة العامة المرجوة منه تحصل بامتثال النظام في الظاهر فقط، وهو قوله: وكذا مما فيه مصلحة عامة أيضًا فيما يظهر، إذا كانت تحصل مع الامتثال ظاهرًا فقط. اهـ.

وأما سؤالك: هل هناك إثم من أي ناحية أخرى؟ فلا يظهر من سؤالك جهة قد توجب الإثم سوى ما يتعلق بمخالفة الأنظمة.

وأما ما ذكرته من الحاجة إلى الاستعانة بالخادمة: فالقاعدة المقررة عند العلماء أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، وأن الحاجة قد تبيح ارتكاب المحرم، جاء في المنثور في القواعد الفقهية للزركشي: الحاجة الخاصة تبيح المحظور، كتضبيب الإناء للحاجة، ومنها: الأكل من طعام الكفار في دار الحرب جائز للغانمين رخصة للحاجة، ولا يشترط أن لا يكون معه طعام آخر، بل يأخذ قدر كفايته وإن كان معه غيره، ومنه: لبس الحرير لحاجة الجرب والحكة ودفع القمل، ومنه: إباحة تحلية آلات الحرب غيظًا للمشركين، وحكوا في برة الناقة وجهين، وصححوا المنع، والمختار الإباحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي جملًا في أنفه برة من فضة، ومنه: الخضاب بالسواد للجهاد؛ لما قاله الماوردي، وكذلك التبختر بين الصفين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه يفعل ذلك: هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع. اهـ باختصار.

وضابط الحاجة هو: ما لو تركه الإنسان لحقه حرج ومشقة غير معتادة، قال الشاطبي في الموافقات: وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين ـ على الجملة ـ الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة. اهـ. فإذا كانت الحاجة تنزل منزلة الضرورة، فتبيح ما حرم بنص الشرع، فمن باب أولى أن تبيح مخالفة النظام المقيد للمباح، وانظري الفتوى رقم: 266395. لكن المرء هو فقيه نفسه في هذه الأحوال، وهو أدرى بحاله، هل بلغت مرتبة الحاجة وفق الضوابط المذكورة، أم لا؟

وأما ما يتعلق بمتابعة الخادمة المخالفة للنظام في البيت، وطلب الخدمة منها ـ في غير الحالات التي يباح في الاستعانة بالخادمة المخالفة على ما سبق تفصيله ـ وهل تعد من الإعانة على المحرم والإثم؟ فالظاهر أن التعاقد معها، وتشغيلها ومتابعتها، كل ذلك داخل في مخالفة ولي الأمر حينئذ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني