السؤال
ما هي كيفية الجمع بين هذين الحديثين:
الأول: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم.
والثاني: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه؟.
وكيف يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرق البيوت على الناس، وفي الحديث الآخر يحرم دم المسلم؟ أريد توضيحا منكم لكي أستطيع أن أجيب من سألني هذا السؤال.
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس بين الحديثين تعارض، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ـ هو في حال عدم استحقاق العقوبة الشرعية, ولذلك لا يشمل من قَتَل متعمداً ووجب عليه القصاص، كما قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا {الإسراء:33}.
وهو القصاص، فللولي المطالبة بقتل القاتل.
وكذلك لا يدخل فيه الزاني المحصن، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ.
وكذلك تارك الصلاة إذا دعاه الإمام فلم يُجب، فإنه يقتل حداً لا ردةً عند كثير من الأئمة، وغير ذلك من الأمثلة مما يخصص به عموم قوله صلى الله عليه وسلم: كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ـ فيكون المعنى: إلا من ثبت القتل في حقه عقوبةً، وسواء كانت العقوبة لحق الآدميين كالقصاص، أم لحق الله تعالى كحد الحرابة، وقتل الزاني المحصن، وقتل تارك الصلاة.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطب، فيُحطَبَ، ثم آمرَ بالصلاة، فيؤذن لها، ثم آمرَ رجلاً فيؤمَّ الناس، ثم أُخاِلفَ إلى رجال، فأحرّق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم، أنه يجد عَرْقاً سميناً، أو مِرماتَينِ حَسَنَتينِ.. لشهد العشاء.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بعقوبتهم لتركهم الجماعة، وهؤلاء كانوا منافقين معلومي النفاق من عادتهم ترك الصلاة استخفافاً بها، لا لعذرٍ، كما قال ابن مسعود: ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
قال ابن عبد البر في التمهيد: وفيه ـ أي الحديث ـ إباحة عقوبة من تأخر عن شهود الجماعة لغير عذر، ولم يكن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلا منافق أو من له عذرٌ بين، وقد استدلت به طائفة على أن العقوبة قد تكون في المال، وجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاقب بما ذكر في هذا الحديث، وجائز أن لا يفعل، لأن ترك إنفاذ الوعيد عفوٌ، وليس بخلف ولا كذب، وإنما الكذب ما أثم فيه المرء وعصى ربه، فجائز مثل هذا القول تأديباً للناس ثم الخيار بعد في إنفاذه. اهـ.
وقال ابن حجر في الفتح: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم نفاق خلق من المنافقين ولا يعاقبهم على نفاقهم، بل يكل سرائرهم إلى الله، ويعاملهم معاملة المسلمين في الظاهر، ولا يعاقبهم إلا على ذنوب تظهر منهم، فلم تكن العقوبة بالتحريق إلا على الذنب الظاهر، وهو التخلف عن شهود الصلاة في المسجد، لا على النفاق الباطن، وأما دعوى أن ذلك كان تخويفا وإرهابا مما لا يجوز فعله، فقد اختلف في جواز ذلك، فروي جوازه عن طائفة من السلف... وبكل حال، فليس ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من التحريق من هذا في شيء، لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه هم، وإنما يهمُّ بما يجوز له فعله، والتخويف يكون عند من أجازه بما لا يجوز فعله ولا الهم بفعله، فتبين أنه ليس من التخويف في شيء وإنما امتنع من التحريق لما في البيوت من النساء والذرية وهم الأطفال، كما في الرواية التي خرجها الإمام أحمد، وهم لا يلزمون شهود الجماعة، فإنها لا تجب على امرأة ولا طفل، والعقوبة إذا خشي أن تتعدى إلى من لا ذنب له امتنعت، كما يؤخر الحد عن الحامل إذا وجب عليها حتى تضع حملها، فإن زعم زاعم أن التحريق منسوخ، لأنه من العقوبات المالية وقد نسخت، وربما عضد ذلك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريق بالنار، قيل له: دعوى نسخ العقوبات المالية بإتلاف الأموال لا تصح، والشريعة طافحة بجواز ذلك، كأمره صلى الله عليه وسلم بتحريق الثوب المعصفر بالنار، وأمره بتحريق متاع الغال، وأمره بكسر القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر الأهلية، وحرَّق عمرُ بيت خمَّار. اهـ.
والله أعلم.