السؤال
أول نداء في القرآن للمؤمنين في سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم)، فما الحكمة من الابتداء بهذا الأمر، ولِمَ لَمْ يكن أمرًا آخر؟ وهل هو من جماليات للآية؟
أول نداء في القرآن للمؤمنين في سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم)، فما الحكمة من الابتداء بهذا الأمر، ولِمَ لَمْ يكن أمرًا آخر؟ وهل هو من جماليات للآية؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
ففي هذه الآية الكريمة أول نداء للمؤمنين ورد في سورة البقرة -كما أشرت-، وقد ورد فيها عدة نداءات كريمة للمؤمنين، ولغيرهم.
ولعل من حِكم مجيء الآية في تلك الفترة بهذا النهي والأمر هو: إرشاد المؤمنين -بعد استقرارهم في مجتمع المدينة المختلط- واطلاعهم على كيد اليهود -الذين هم جزء من ذلك المجتمع- والتنبيه على دسهم، والحذر منهم؛ لأن هذه السورة أول ما نزل بالمدينة -كما قال بعض أهل التفسير-.
ومنه نداؤهم بصفة الإيمان -التي يعتز بها كل مؤمن- استنهاضًا لهممهم، وتحفيزًا لهم على الامتثال، وفعل الخير؛ ولهذا كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، فأرعها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. رواه البيهقي في شعب الإيمان.
ويقول سيد قطب -رحمه الله- في ظلال القرآن: يناديهم بالصفة التي تميزهم، والتي تربطهم بربهم، ونبيهم، والتي تستجيش في نفوسهم الاستجابة والتلبية، وبهذه الصفة ينهاهم أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «راعنا» - من الرعاية، والنظر- وأن يقولوا بدلًا منها مرادفها في اللغة العربية: «انْظُرْنا» ..
ويأمرهم بالسمع بمعنى الطاعة، ويحذرهم من مصير الكافرين، وهو العذاب الأليم. وتذكر الروايات أن السبب في ذلك النهي عن كلمة: «راعِنا» .. أن سفهاء اليهود كانوا يميلون ألسنتهم في نطق هذا اللفظ، وهم يوجهونه للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤدي معنى آخر مشتقًّا من الرعونة، فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي صلى الله عليه وسلم مواجهة، فيحتالون على سبه صلوات الله وسلامه عليه بهذا الطريق الملتوي، الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء، ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته؛ كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه. اهـ.
ومن أسلوب الجمال والبلاغة في الآية، ما ذكره الصابوني في صفوة التفاسير، فقال: خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ}، وهذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الإِقبال عليهم، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين، يذكّرهم بأن الإِيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله ونواهيه بحسن الطاعة، والامتثال، وفي نهيهم أن يقولوا في خطاب النبي عليه السلام: {رَاعِنَا}، وأمرهم أن يقولوا مكانها: {انظرنا} تنبيه لأدبٍ جميل، هو أن الإِنسان يتجنب في مخاطبته الألفاظ التي توهم الجفاء، أو التنقيص في مقام يقتضي إظهار المودة، أو التعظيم. اهـ.
وفي ختام الآية بالمصير المحتوم لأولئك المكذبين المخادعين الحاسدين، الذين نالوا من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وسبّوه، ومن على شاكلتهم من الكافرين، فيه طمأنة، وبشارة للمؤمنين بأن أعداءهم لن يفلتوا من العقاب.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني