الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الواجب على من التقط لقطة لها قيمة، أن يعرفها سنة كاملة، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية -في بيان وجوب التعريف ومدته، وكيفيته-: ذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية في المعتمد، والحنابلة إلى أنه يجب على الملتقط تعريف اللقطة، سواء أراد تملكها، أو حفظها لصاحبها؛ لما ورد عن أبي بن كعب، قال: أصبت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عرفها حولًا، فعرفتها حولًا، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرفها حولًا، فعرفتها، فلم أجد، ثم أتيته ثلاثًا، فقال: احفظ وعاءها، وعددها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها.
ويرى مالك، والشافعي، وأحمد أن اللقطة تعرّف سنة من غير تفصيل بين القليل والكثير، وهذا رأي محمد بن الحسن من الحنفية أيضًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن يعرف اللقطة سنة من غير فصل بين القليل والكثير، ولأن السنة لا تتأخر عنها القوافل، ويمضي فيها الزمان الذي تقصد فيه البلاد من الحر والبرد والاعتدال، فصلحت قدرًا.
وذهب الفقهاء إلى أن الملتقط يعرّف اللقطة خلال مدة التعريف، في النهار دون الليل؛ لأن النهار مجمع الناس وملتقاهم دون الليل، ويكون التعريف في اليوم الذي وجدها فيه، ولأسبوع بعده؛ لأن الطلب فيه أكثر، فيعرفها في كل يوم، ويعرفها في المكان الذي وجدها فيه؛ لأن ذلك أقرب إلى الوصول إلى صاحبها؛ لأنه يطلبها غالبًا حيث افتقدها، كما تعرف أيضًا على أبواب المساجد والجوامع في الوقت الذي يجتمعون فيه، كأدبار الصلوات، ولا ينشدها داخل المسجد؛ لأن المساجد لم تبن لهذا، ولورود النهي عن ذلك، كما يعرفها أيضًا في الأسواق، والمجامع، والمحافل، ومحال الرحال، ومناخ الأسفار، وإن التقط في الصحراء وهناك قافلة، تبعها وعرف فيها.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب على الملتقط أن يستغرق جميع الحول بالتعريف كل يوم، بل يعرف في أول السنة كل يوم مرتين، ثم مرة كل أسبوع، ثم مرة أو مرتين في كل شهر، وإنما جعل التعريف في أول السنة أكثر؛ لأن طلب المالك فيها أكثر، وكلما طالت المدة على فقد اللقطة، قل طلب المالك لها .اهـ. باختصار.
وانظر الفتوى رقم: 236545.
فما صنعته لا يعد تعريفًا للقطة شرعًا، وحينئذ؛ فالواجب عليك أن تستمر في تعريف هذه اللقطة حتى تكمل سنة من يوم التقاطها، وقيل: بل تكمل الشهر الذي لم تعرف فيه اللقطة من الحول الثاني، جاء في المغني لابن قدامة: إذا أخّر التعريف عن الحول الأول، مع إمكانه، أثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فيه، والأمر يقتضي الوجوب. وقال في حديث عياض بن حمار: «لا يكتم، ولا يغيب». ولأن ذلك وسيلة إلى أن لا يعرفها صاحبها، فإن الظاهر أنه بعد الحول ييأس منها، ويسلو عنها، ويترك طلبها. ويسقط التعريف بتأخيره عن الحول الأول، في المنصوص عن أحمد؛ لأن حكمة التعريف لا تحصل بعد الحول الأول، وإن تركه في بعض الحول، عرف بقيته. ويتخرج أن لا يسقط التعريف بتأخره؛ لأنه واجب، فلا يسقط بتأخيره عن وقته، كالعبادات، وسائر الواجبات. ولأن التعريف في الحول الثاني يحصل به المقصود على نوع من القصور، فيجب الإتيان به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم»، فعلى هذا إن أخّر التعريف بعض الحول، أتى بالتعريف في بقيته، وأتمه من الحول الثاني.
وعلى كلا القولين؛ لا يملكها بالتعريف فيما عدا الحول الأول؛ لأن شرط الملك التعريف في الحول الأول، ولم يوجد.
وهل له أن يتصدق بها أو يحبسها عنده أبدًا؟ على روايتين، ويحتمل أن يلزمه دفعها إلى الحاكم، كقولنا فيما إذا التقط ما لا يجوز التقاطه.
ولو ترك التعريف في بعض الحول الأول، لم يملكها أيضًا بالتعريف فيما بعده؛ لأن الشرط لم يكمل، وعدم بعض الشرط، كعدم جميعه، كما لو أخل ببعض الطهارة، أو ببعض السترة في الصلاة. اهـ.
وراجع أقوال العلماء في تأخير التعريف، في الفتوى رقم: 59086، والفتوى رقم: 156613.
ومما سبق يتبين أنه ليس لك حق في تملك اللقطة؛ لأنك أخّرت تعريفها.
وإن لم تعرف صاحب اللقطة بعد مضي الحول -إما من التقاطها على قول، ومن بداءتك بالتعريف على القول الآخر- فإنك تخير بين الصدقة باللقطة عن صاحبها -مع ضمانها له- أو دفعها إلى الحاكم، إن كان مؤتمنًا، فإن لم يوجد حاكم مؤتمن، فإنك تتصدق بها حينئذ وجوبًا، جاء في مطالب أولي النهى: (ولم يملكها) - أي: اللقطة به - أي: التعريف - (بعد) - أي: بعد حول التعريف؛ - لأن شرط الملك التعريف فيه، ولم يوجد؛ ولأن الظاهر أن التعريف بعد الحول لا فائدة فيه؛ لأن ربها بعده يسلو عنها، ويترك طلبها. ومقتضى ما تقدم في الغصب أنه يتصدق بها، كما يأثم بالتقاط بنية تملك، بلا تعريف، أو لم يرد به تعريفها، ولا تملكها، فلا يملكها، ولو عرفها؛ لأنه أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه، فأشبه الغاصب، قال في "المغني": نص على هذا [أحمد]. اهـ.
وكان قد قال في الغصب: (وله) - أي: من بيده الغصوب، ونحوها إن لم يدفعها للحاكم - (الصدقة بها عنهم)- أي: عن أربابها، بلا إذن حاكم، وقال (في "الغنية": يجب عليه ذلك)- أي: التصدق بها. (ويتجه حمله)- أي: لزوم التصدق- (مع عدم حاكم أهل) للائتمان، كحكامنا الآن، فإن وجد حاكم أهل -وهو أندر من الكبريت الأحمر- فلا يلزمه التصدق بها، بل يكون مخيرًا بين دفعها إليه؛ ليبرأ من عهدتها، وبين الصدقة بها، وهو متجه، (بشرط ضمانها) لأربابها إذا عرفهم؛ لأن الصدقة بدون الضمان إضاعة لمال المالك، لا على وجه بدل، وهو غير جائز، وله شراء عرض بنقد، ويتصدق به، ولا يجوز في ذلك محاباة قريب، أو غيره، نص عليها. وكذا حكم مسروق، ونحوه؛ (كلقطة) حرم التقاطها، ولم يعرفها، فيتصدق بها عن ربها بشرط الضمان، أو يدفعها للحاكم الأهل. اهـ. باختصار.
وفي هذه الحالة هل يجوز أن تأخذ اللقطة لنفسك، إن كنت من أهل الصدقة -كالصدقة بها على الغير- ؟ للعلماء قولان في ذلك، جاء في الإنصاف للمرداوي -عند قول الماتن: (وإن بقيت في يده غصوب لا يعرف أربابها: تصدق بها عنهم، بشرط الضمان، كاللقطة)-: لا يجوز لمن هذه الأشياء في يده، وقلنا: له الصدقة بها، أن يأخذ منها لنفسه إذا كان من أهل الصدقة. نص عليه. وخرج القاضي: جواز الأكل منها إذا كان فقيرًا، على الروايتين في شراء الوصي من نفسه. نقله عنه ابن عقيل في فنونه. وأفتى به الشيخ تقي الدين -رحمه الله- في الغاصب إذا تاب. اهـ.
والله أعلم.