الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا نعلم أحدًا من العلماء قد أطلق القول بوجوب الوقف على رؤوس الآيات، وتحريم صلة بعضها ببعض، لا في قراءة حفص عن عاصم، ولا في غيرها من القراءات.
وإنما المعروف هو استحباب ذلك، لا وجوبه.
وقد اختلف العلماء: هل يستحب الوقف على رؤوس الآيات مطلقًا، ولو تعلقت الآية بما بعدها - استدلالًا بحديث عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة، أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: {بسم الله الرحمن الرحيم}، {الحمد لله رب العالمين}، {الرحمن الرحيم}، {مالك يوم الدين}. أخرجه أحمد، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين - أم إن الأولى مراعاة المعنى في الوقوف على رؤوس الآيات؟ هذا هو محل الخلاف بين العلماء.
مع أن هذا الخلاف مقيد بما إذا لم يؤدِّ الوقف على رأس الآية إلى إيهام معنى فاسد؛ فحينئذ لا يستحب الوقف على رأس الآية قولًا واحدًا، قال الدكتور عبد الله الميموني: جعل البيهقي، والداني، وأبو العلاء الهمذاني، وابن القيم، وابن الجزري: الوقف على رؤوس الآي سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال البيهقي: (ومتابعة السنة أولى مما ذهب إليه بعض أهل العلم بالقرآن من تتبع الأغراض، والمقاصد، والوقوف عند انتهائها). وقد قوّى ذلك عند العلماء -رحمهم الله تعالى- أن رؤوس الآي مقاطع في أنفسهنّ، وأكثر ما يوجد الوقف التام فيهنّ.
ثم إنه ليس في الحديث - فيما ظهر - دلالة على مداومة النبي على ذلك، بل هناك ما يدل على خلاف ذلك، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان من شأنه المداومة على ذلك، ولو غالبًا، فإنه لا بدّ أن ينقل إلينا ذلك من غير طريق ابن أبي مليكة، فلما لم نجد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندًا من غير طريق ابن أبي مليكة، علمنا أنه لم يكن من شأنه صلى الله عليه وسلم مراعاة ذلك على الدوام.
ولهذا؛ فإن أكثر القراء صاروا إلى مراعاة المعنى، وإن لم يكن رأس آية، كما نقله عنهم الزركشي، فإنه قال: (واعلم أن أكثر القراء يبتغون في الوقف المعنى، وإن لم يكن رأس آية)، وإليه يشير قول السخاوي: (وأجاز جماعة من القراء الوقف على رؤوس الآي؛ عملًا بالحديث)، وفي كلام الداني إشارة إلى ذلك؛ لأنه حكى الوقف على رؤوس الآي عن جماعة من الأئمة السالفين، والقراء الماضين.
وكل هذا يدل على أن أكثرهم لم يره، وهو الذي يدل عليه تصرف علماء الوقف في كتب الوقف والابتداء، فإنهم يجعلون رؤوس الآي، وغيرها في حكم واحد، من جهة تعلق ما بعدها بما قبله، وعدم تعلقه، ولذا كتبوا (لا) فوق الفواصل، كما كتبوه فوق غيرها.
ومع أن أكثر القراء إنما يراعون المعاني، فهم يقفون لمراعاتهم المعاني على رؤوس الآي غالبًا؛ لأنهنّ في الغالب مقاطع ينتهي إليهنّ المعنى، كما تقدم.
ولا بد من تقييد القول بأن الوقف على رؤوس الآي سنة، بما لا يفسد المعنى، ولا يحيله عن وجهه؛ لأنا نعلم أن ذلك مستثنى ضرورة من هذا الإطلاق، فإن من الفواصل ما لا يصح الوقوف عليه؛ لفساد المعنى بذلك، وذلك خلاف ما أمر الله به من تدبر القرآن، قال السخاوي: (إلا أن من الفواصل ما لا يحسن الوقف عليه، كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]؛ لأن المراد: فويل للساهين عن صلاتهم، المرائين فيها، فلا يتم المعنى إلا بالوصل، وليس الوقف على قوله: (والضحى) كالوقف على ما جاء في الحديث)؛ لأن: {وَالضُّحَى} رأس آية، وتعلقها بما بعدها من أقسام وجواب قسم قوي. وأمثال (والضحى) من الآيات التي يقوى تعلقها بما بعدها كثير، مثل قوله تعالى: {وَالطُّورِ} و{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}.
ولذا؛ فقد جعل علماء الوقف والابتداء الوقف على المواضع التي يشتد تعلقها بما بعدها قبيحًا، مع كونها رؤوس آي، كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، وكقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14]، فلو وقف القارئ هنا؛ لكان الكلام لا معنى له؛ لأن الجواب لا يتم، فإن اللام بعدها في قوله تعالى: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} متعلقة بما قبلها.
فقد ذكر كثير من علماء الوقف هذه الآيات، ونبهوا على رأس الآية، ومنعوا من الوقف عليها مع كونها رؤوس آي، وممن ذكر ذلك: الإمام الداني، وابن الجزري، والأشموني، وزكريا الأنصاري، وغيرهم، قال في المقصد لتلخيص ما في المرشد: (ويسن للقارئ أن يتعلم الوقوف، وأن يقف على أواخر الآي، إلا ما كان منها شديد التعلق بما بعده، كقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14]، وقوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82])، فمتى اشتد تعلق الآية بما بعدها لم يصح تعمد الوقف عليها، حتى وإن كانت رأس آية. اهـ باختصار من كتابه: (فضل علم الوقف والابتداء وحكم الوقف على رؤوس الآيات).
والله أعلم.