الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس لهذين الأثرين ونحوهما إسناد خالٍ من الطعن! وهما في الحقيقة من نسخ وصحف مشهورة في التفسير، لها أسانيد دائرة.
فالأول من صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقد ضعفها جماعة من أهل العلم؛ لضعف راويها عبد الله بن صالح كاتب الليث، وللكلام في علي بن أبي طلحة نفسه، وللانقطاع بينه وابن عباس! وبذلك ضعف الشيخ الألباني هذا الإسناد، في السلسلة الضعيفة، وفي الإرواء.
وقال العلامة المعلمي اليماني في كتاب التنكيل: السند عن ابن عباس فيه كلام، وهو مع ذلك منقطع؛ علي بن أبي طلحة أجمع الحفاظ كما في (الإتقان) عن الخليلي على أنه لم يسمع من ابن عباس، وقال بعضهم : "إنما يروي عنه بواسطة مجاهد أو سعيد بن جبير". ولا دليل على أنه لا يروي عنه بواسطة غيرهما، والثابت عنهما في تفسير الصمد خلاف هذا. اهـ.
وقال أبو أحمد الحاكم في الأسامي والكنى: لم يسمع من ابن عباس شيئًا، ولا يتابع في تفسيره عن ابن عباس. اهـ.
وإن كان بعض الأئمة قد حمل هذه الصحيفة على الاتصال؛ فإنه ينبغي أن ينظر بعد ذلك في المتن، فلا يقبل ما تنفرد به مما يستنكر.
ولذلك قال الدكتور عبد العزيز الطريفي في كتابه: «التحجيل في تخريج ما لم يخرج من الأحاديث والآثار في إرواء الغليل»: هذا الإسناد لا يطلق القول برده ولا بقبوله، حتى ينظر في المتون، وكثير منها مستقيمة صالحة ... إلا أنه جاء من هذا الطريق ما يستنكر ويرد، ولذا قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- كما أسنده عنه العقيلي في "كتابه الضعفاء": (علي بن أبي طلحة له أشياء منكرات، وهو من أهل حمص) انتهى. وقد نظرت في حديثه، فرأيت له ما ينكر، وما يتفرد بمعناه عن سائر أصحاب ابن عباس. اهـ.
وذكر منها الأثر الوارد في السؤال، وقال: هذا خبر منكر بمرة. اهـ.
وقال نحو ذلك في كتابه (التقرير في أسانيد التفسير).
وأما الأثر الآخر: فقد أخرجه الطبري من طريق السدي عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، قال: قال عبد الله. فذكر نحوه.
وهذا أيضا من الأسانيد الدائرة في التفسير، ويكثر وروده في تفسير الطبري، وقد قال الطبري نفسه عن هذا الإسناد: إن كان ذلك صحيحا، ولست أعلمه صحيحا، إذ كنت بإسناده مرتابا. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء) عن تفسير السدي: ذكر في أول تفسيره أنه أخذه عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهَمْداني عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن هو ينقله بلفظه ويخلط الروايات بعضها ببعض، وقد يكون فيها المرسل، والمسند، ولا يميز بينهما، ولهذا يقال: ذكره السدي عن أشياخه. ففيه ما هو ثابت عن بعض الصحابة: ابن مسعود، وابن عباس، وغيرهما. وفيه ما لا يجزم به. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في «العجاب في بيان الأسباب» في ذكر روايات الضعفاء عن ابن عباس: إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وهو كوفي صدوق، لكنه جمع التفسير من طرق منها عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة بن شراحيل عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة وغيرهم. وخلط روايات الجميع فلم تتميز رواية الثقة من الضعيف، ولم يلق السدي من الصحابة إلا أنس بن مالك. اهـ.
وقد ضعف العلامة المعلمي اليماني إسناد تفسير السدي، وذكر أن فيه ما يستنكر ويستغرب، ولفت النظر إلى الخطأ الكبير في تركيب كل عبارات السدي على هذا الإسناد، في كلام طويل ومفيد، فراجعه إن شئت في رسالة (فرضية الجمعة وسبب تسميتها).
ومما ذكره أهل العلم في تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور أنها من أسماء الله، وليس لذلك إسناد قائم، ولا يستقيم من جهة المعنى.
ولذلك قال العلامة الطاهر بن عاشور في «التحرير والتنوير» في سرد الأقوال في ذلك: القول الحادي عشر: أن كل حروف مركبة منها هي اسم من أسماء الله، رووا عن علي أنه كان يقول: "يا كهيعص يا حم عسق" ... ويبطله عدم الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبرا أو نحوه عن اسم الله، مثل {الم ذلك الكتاب} و {المص كتاب أنزل إليك}. اهـ.
وسرد الدكتور فهد الرومي في بحثه (وجوه التحدي والإعجاز في الأحرف المقطعة) أقوال العلماء فيها، ومنها القول العاشر: أن المركب من هذه الحروف هو من أسماء الله!
قال: ورووا عن علي أنه كان يقول: يا كهيعص يا حم عسق!! وهو من الأقوال المنكرة. اهـ.
وقال الماتريدي في تفسيره: وقيل: اسم من أسماء اللَّه تعالى، وعلى ذلك رُويَ عن علي أنه قال: "يا كهيعص، اغفر لي". قال أبو بكر الأصم: لا يصح هذا من علي؛ لأن هذا لم يذكر في أسمائه المعروفة التي يدعى بها. اهـ.
وقد اجتهد بعض أهل العلم في حمل كلام علي -رضي الله عنه- على محمل مقبول، إن صح ذلك عنه، كما قال البيضاوي في تفسيره: لعله أراد: يا منزلها. اهـ.
وقال الزجاج في «معاني القرآن وإعرابه»: وقيل: إن تأويلها أنها حروف يَدُلُّ كُل وَاحِد منها على صفة من صفات اللَّه عزَّ وجلَّ، فكاف يدل على كريم، و "ها" يدل على هادٍ، و "يا" من حكيم، و "عين" يدل على عالم، و "صَادْ" يَدُلُّ على صادق ... وروى أن عَلِيًّا أقسم بكهيعص، أو قال: "يا كهيعص". والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد؛ لأن الداعي إذا عَلِمَ أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات اللَّه -جلَّ وعزَّ- فدعا بها. فكأنه قال: يا كافي يا هادي يا عَالِم يَا صَادِق، فكأنه دعا بكهيعص لذكرها في القرآن، وهو يدل على هذه الصفات، فإذا أقسم فقال: وكهيعص، فكأنه قال: والكافي والهادي والعالم والحكيم والصادق. اهـ.
والخلاصة أنه: إذا لم يصح أن الحروف القطعة في أوائل السور تعتبر من أسماء الله تعالى، فلا يصح نداء الله ودعاؤه بها. وبحسب المسلم ما ورد من الأدعية المباركة في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.