السؤال
أنا مبتلاة -والحمد لله- وراضية، وأكثر ما يشغلني أن يأجرني الله، وأن أحسن الاحتساب، لكني أرى في أحيان كثيرة أن ابتلائي أخف مقارنة بابتلاء أخوات حولي، فأرجع ذلك إلى قدر الإيمان، فأغبطهنّ، وأحزن على نفسي، وأقول: إن الله أراد بهنّ خيرًا كثيرًا، فابتلاهنّ -عز وجل- بابتلاءات أشد، لكن من أنا ليبتليني الله مثلهنّ، وأنا حقًّا لست الأمة الصالحة، بل إني أنتكس كثيرًا، وأعلم هذا، وأعلم أيضًا أنه لا يجوز طلب الابتلاء، ولكن هل يصل الإنسان دون ابتلاء إلى عظيم الثواب الذي يصل إليه أهل الابتلاء باحتسابهم وصبرهم؟
أحتاج أن يذكّرني أحد أنني لا أحتاج إلى الابتلاء للوصول، ويكفي أن أصدق، وأخلص النية، وأسير في طريق الله عز وجل. أحتاج أحدًا يذكّرني أن هذه المقارنة التي أنشغل بها، وغبطتي لأهل الابتلاء ليست المقياس أبدًا، فإني أرى دائمًا أني لا أرقى لتلك المكانة، وأشعر أني تأخّرت في اتخاذ قرار البداية والالتزام.
عمري 29 عامًا، وعلمي الشرعي قليل جدًّا، ومحفوظي من القرآن الكريم أجزاء قليلة، وأنتكس كثيرًا في الطاعة، وأتعمّد أن أقرأ، وأدعو بكل ما يلين قلبي ويرققه، وأسعى للصحبة الصالحة، ولكن يسوء الأمر باعتقادي أنهم من سينتشلونني، فإن غابوا عني فسأهلك؛ لأني لست على قدر علمهم، والتزامهم، وتقدّمهم، وأنا أعلم أن الأمر بيد الله، ولا يهتدي إلا من أراد الله له الهداية، وأنه وإن كانت الصحبة مهمة، إلا أن الله قد يفتح على المرء وإن كان وحيدًا في بلاد الكفر، فمن حضر حضر، ومن غاب غاب، فلا يصحّ أن تبلغ مخاوفي من خسارتهم هذا الحد، ولا بد من الاتّزان والتوكل على الله وحده.
أعلم كل ذلك، ولكني أحتاج أن يقول لي هذا الكلام من هو أفضل وأعلم وأتقى مني، وكأنه يربط على قلبي، ويحذّرني أن أتيه، أو أهيم، فأترك الهدف الأساس، وتفتك بي المشاعر والأفكار السلبية.
فما شأني إن كان فلان مبتلى بأشد، أو أقل، أو كان أصلح، أو أراد الله به خيرًا. فليكن ذلك، فالعبرة هي: أين أنا، دون الالتفات إلى غيري ووضعه، فإن خفت على نفسي، فلأتقدم وأتقرّب، وأسأل الله الإخلاص والقبول دون الالتفات لمن حولي.
ساعدوني على وضع الأمور في نصابها -بارك الله فيكم-، وأرشدوني: أيّ العلوم أولى للبداية؟ فقد قرّرت أنه القرآن؛ لأنه طريق الله، ومعرفة لكل الدِّين في آياته، وتفسيره، والفقه؛ حتى لا أعبد على جهالة، والعقيدة حتى لا أضلّ أو أتزعزع، فهل أصبت؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس الابتلاء هو الطريق الوحيد للوصول إلى الله تعالى، بل من كان في عافية، فعليه أن يحمد الله تعالى، ويشكره، ويجتهد في طاعة ربه، ويستغلّ نعمة العافية تلك في التقرّب إلى الله تعالى، وفي المسند أن أبا بكر -رضي الله عنه- خطب الناس، فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام الأول، وبكى أبو بكر، فقال أبو بكر: سلوا الله المعافاة، أو قال: العافية، فلم يؤت أحد قط بعد اليقين أفضل من العافية، أو المعافاة. قال محقق المسند: إسناده صحيح.
والأحاديث في الأمر بسؤال العافية كثيرة، فمن عافاه الله، فقد أنعم عليه نعمة عظيمة، فعليه أن يجتهد في شكرها، والقيام بواجب العبودية فيها، قال مطرف بن عبد الله: نظرت في العافية والشكر، فوجدت فيهما خير الدنيا والآخرة، ولأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن أبتلى فأصبر. ذكره ابن القيم في عدة الصابرين.
وإذا علمت هذا؛ فعليك أن تصحّحي تلك الفكرة التي استقرّت عندك من أن البلاء هو السبيل الوحيد للتقرّب إلى الله تعالى، ونيل رضاه، بل المؤمن يتقلّب في قدر الله تعالى وتدبيره، وحيث أقامه الله تعالى قام، فإن ابتلاه صبر، وكان في ذلك الخير له، وإن أنعم عليه شكر، وكان في ذلك الخير له، كما في حديث صهيب عند مسلم، فهو قائم بواجب العبودية في السراء والضراء، ومراده هو مرضات الله تعالى، ونيل الزلفى لديه.
فعليك ألا تشغلي نفسك بمن ابتلي ومن عوفي، وانظري في حالك، وقومي بواجب العبودية المنوط بك: فإن كانت نعمة، فاشكري، واجتهدي في طاعة الله، وإن كانت بلية، فاصبري، واجتهدي كذلك في طاعة الله.
فعليك -كما ذكرت- أن تحرصي على الصدق، والإخلاص في معاملة الله تعالى، وأن تأخذي بأسباب الاستقامة، والقرب من الله تعالى -من الحفاظ على الفرائض، والإكثار من النوافل، ولزوم الذكر، والدعاء، والابتهال إلى الله تعالى أن يثبتك ويرزقك القرب منه سبحانه-.
ثم إن الصحبة الصالحة من خير ما يستعان به على طاعة الله تعالى، فاحرصي عليها؛ لكونها سببًا للاستقامة، مع العلم واليقين أن مسبب الأسباب هو الله تعالى، وأنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وعلّقي قلبك به سبحانه، وسليه الهداية، والسداد.
وأما العلم الشرعي؛ فعليك بتعلّم ما يلزمك تعلّمه على الفور-من أحكام العبادات الواجبة -كطهارة، وصلاة-، وما يصح به الاعتقاد، ونحو ذلك، فهذا أولى ما تبدئين به، وانظري الفتوى: 170405.
ثم اجتهدي بعد ذلك في حفظ كتاب الله تعالى، ومعرفة تفسيره، وتعلّم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ودراسة الفقه والعقيدة؛ فإن في ذلك خيرًا كثيرًا -جعلنا الله وإياك ممن إذا أنعم عليهم شكروا، وإذا ابتلوا صبروا-.
والله أعلم.