الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يشرح صدرك، ويلهمك رشدك، ويعيذك من شرّ نفسك.
وما هكذا يستقبل المؤمن ما قد يعرض له من شبهات؛ فعنده من الأصول والضوابط ما تقف معه كل شبهة عند حدّها؛ حتى ولو لم يجد لها من الجواب المُفهِم ما يزيل أصلها؛ ولذلك يتحتّم علينا أن ننبه السائل الكريم على عدة أمور هي أهم مما سأل عنه، وهي:
ـ الأول: أن الإيمان الحق له من الأدلة القاطعة، والبراهين الثابتة ما لا يحصى، سواء من نصوص الوحي، أم من شواهد الكون، ولا يصح أن تزلزل هذا القواطع لمجرد إشكال قد يغيب جوابه عن العبد، والمنحى الصحيح عندئذ أن يرد المتشابه إلى المحكم، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ {آل عمران:7-8}، قال السعدي: {منه آيات محكمات} أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة، ولا إشكال {هن أم الكتاب} أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه، وأكثره {و} منه آيات {أخر متشابهات} أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان؛ لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها.
فالحاصل: أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس؛ فالواجب في هذا أن يردّ المتشابه إلى المحكم، والخفيّ إلى الجليّ؛ فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضًا، ولا يحصل فيه مناقضة، ولا معارضة. اهـ.
ـ الثاني: أنه لا يمكن أن يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح، إلا في ذهن المرء، لا في واقع الأمر، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل): لا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح، وإنما يظن تعارضهما من غلط في مدلولهما، أو مدلول أحدهما ... والسمع الصحيح هو القول الصادق من المعصوم الذي لا يجوز أن يكون في خبره كذب لا عمدًا ولا خطأ، والمعقول الصحيح هو ما كان ثابتًا أو منتفيًا في نفس الأمر، لا بحسب إدراك شخص معين، وما كان ثابتًا أو منتفيًا في نفس الأمر، لا يجوز أن يخبر عنه الصادق بنقيض ذلك، بل من شهد الكائنات على ما هي عليه، وجدها مطابقة لخبر الصادق، كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} (فصلت:53)، فأخبر أنه سيريهم من الآيات العيانية المشهودة لهم ما يبين لهم أن القرآن حق. اهـ.
وعلى ذلك؛ فما جاء في كتاب الله تعالى، وما ثبت في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واستبانت دلالته؛ فلا بد أن يوافق الواقع، ولا يخالفه، والقائل به لا بدّ أن يوافق مقتضى العقل الصريح، قال شيخ الإسلام: كل من أثبت ما أثبته الرسول، ونفي ما نفاه؛ كان أولى بالمعقول الصريح، كما كان أولى بالمنقول الصحيح، وأن من خالف صحيح المنقول، فقد خالف أيضًا صريح المعقول، وكان أولى بمن قال الله فيه: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}. اهـ.
ـ الثالث: أن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب، وأمور التشريع؛ وحيٌ معصوم، لا يمكن أن يخطئ، كما قال عبد الله بن عمرو: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق. رواه أبو داود، وأحمد، وصححه الألباني. وما كان هذا شأنه لا يمكن أن يختلف، ولا أن يخالف القرآن؛ إذ كل من عند الله، وقد قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا {النساء:82}.
ـ الرابع: أن ما يعرف بالنظريات العلمية في تفسير بعض الشواهد الكونية، لا تعدو مجرد الاحتمال القابل للصواب والخطأ، ولكن بعض من له قدر من الثقافة ينبهر بها؛ حتى يصير ذلك عنده كأنه حقيقة علمية يقينية لا بد من رفض كل ما يعارضها، مع إنها عند واضعيها مجرد نظريات قابلة للتغيّر والتطوّر، والإصابة والخطأ، بخلاف الحقائق الثابتة التي لا يصحّ الشك فيها بعد ثبوتها، وانظر الفتوى: 117667.
وحركة الشمس والأرض من هذا الباب؛ فلا يزال هناك جدل علمي كبير بين العلماء المتخصصين في حقيقتها وكيفيتها، ناهيك عن نسبة حركة كل منهما للآخر، ونسبية التعبير عن هذه الحركة.
ومما يجدر التنبيه عليه هنا هو أن اختلاف زمان ومكان الرائي مؤثّر في الحكم على الأعيان المتحركة التي تشغل زمانًا ومكانًا مختلفين كذلك، وهو ما يسمى: "الإطار المرجعي" للأشياء.
ومن الأمثلة البسيطة التي يضربها أصحاب النظرية النسبية للتمثيل عليها هو: وجود مُلاحِظَين يشاهدان قطارًا واحدًا، هذا في الجهة الأولى من سكة القطار، والمشاهد الآخر في الجهة المقابلة من سكة القطار، فالأول يقول: القطار متجه إلى اليسار، أما الآخر فيجزم باتجاه القطار إلى اليمين؛ فأثّر اختلاف مكان الملاحظين في الحكم على الجهة ... وهكذا الأمر بالنسبة لحركة الشمس؛ ولذلك يشترط بعض العلماء الوجود في إطار مرجعي منفصل عن المجموعة الشمسية بأسرها للوقوف على حقيقة حركتها؛ ومن ثم الحكم عليها حسًّا بالإثبات أو النفي.
وهذا الأمر غير مُتَأَتٍّ، وتبقى الحقيقة الكونية مجهولة، ونحن لا نزال نجهل الكثير عن ما نعتقد في أذهاننا أننا قد بلغنا النهاية والغاية في إدراك حقيقته، مع أن هذه الأشياء هي المقدمات التي يترتب على كمال إدراكها صحة النتيجة العقلية الحاكمة على تلك القضية، ولكن كثيرًا من الناس لفرط استجابتهم لبادي الرأي من أنفسهم يحكمون بالنتيجة قبل استصلاح المقدمات، واكتمالها، وقد قال الله تعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا {الإسراء:11}.
وإذا تقرر ذلك؛ تبين للسائل أن قوله: (لفظ: "ارجعي من حيث جئت" واضح صريح أن الشمس هي من تشرق وتغرب رغم أن دوران الأرض هو المسؤول، وليس العكس) - ليس في محلّه، والجزم بأن حركة الأرض وحدها هي المسؤولة عن ظاهرة الغروب والشروق؛ محل نظر، ولا يبعد أن تكون حركة الشمس هي المؤثرة في حركة الأرض أصلًا! ولفظ: (ارجعي) ليس نصًّا في ما ذكره السائل؛ فيحتمل أن يقصد بالرجوع عكس اتجاه الحركة!
وعلى أية حال؛ فهذا إنما يكون عند قيام الساعة، ونواميس الكون العلوي والسفلي تتغير وتتبدل حينئذ، ولا توافق ما عهده الناس من حاله، وسير أجرامه، كما قال تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:1-3]، وقال: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:1-3].
فالمسألة ليست بهذا الحجم الذي يصّورها به السائل؛ فيحمله ذلك على الخروج من الملّة -والعياذ بالله-!
والله أعلم.