الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معيار جواز تأديب النفس بالجوع

السؤال

هل الإمساك عن الأكل والشرب بدون نية الصيام، كمن أمسك عنهما بعد الظهر مثلا؛ تأديبا للنفس على كثرة الذنوب؛ يعد بدعة أم مشروعا؟
وكيف أبالغ في التوبة، حتى لا أفعل هذه الذنوب مرة أخرى؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد سبق أن بينا جواز تأديب النفس بإلزامها ببعض الطاعات في الفتوى: 212974. كما بينا شروط التوبة في الفتوى: 356098.

وأما تأديب النفس بحرمانها من بعض المباحات؛ كترك الطعام زمنا لا يحصل به ضرر على النفس، فهذا مباح لا حرج فيه، فأصل التقليل من الطعام مع القدرة عليه مطلوب شرعا، وورد عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم-، ترويضا للنفس.

وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه يجوعون كثيرا، ويتقللون من أكل الشهوات، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام، إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال، وأفضلها. ولهذا كان ابن عمر يتشبه بهم في ذلك -مع قدرته على الطعام-، وكذلك كان أبوه من قبله.... وقد ذم الله ورسوله من اتبع الشهوات. اهــ.

قال الغزالي في الإحياء: مهما حاسب نفسه فلم تسلم عن مقارفة معصية، وارتكاب تقصير في حق الله تعالى، فلا ينبغي أن يهملها، فإنه أن أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي، وأنست بها نفسه، وعسر عليه فطامها، وكان ذلك بسبب هلاكها بل ينبغي أن يعاقبها، فإذا أكل لقمة شبهة بشهوة نفس ينبغي أن يعاقب البطن بالجوع.. اهــ.

وقال الخادمي الحنفي في بريقة محمودية: وَأَمَّا تَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْجِزُ وَلَا يُضْعِفُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ فَأَمْرٌ اسْتِحْبَابِيٌّ يَقْوَى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ. اهــ.

وقال أيضا: وَإِنْ صَدَرَتْ مَعْصِيَةٌ اشْتَغَلَ بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَمُعَاتَبَتِهَا لِيَتَدَارَكَهَا، ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَنْ خَوَاطِرِهِ، وَقِيَامِهِ، وَقُعُودِهِ، وَأَكْلِهِ، وَشُرْبِهِ، وَنَوْمِهِ، حَتَّى عَنْ سُكُوتِهِ؛ لِمَ سَكَتَ مَثَلًا. إذَا أَكَلَ لُقْمَةً بِشُبْهَةٍ يُعَاقِبُهَا بِالْجُوعِ، وَإِذَا نَظَرَ إلَى مُحَرَّمٍ يُعَاقِبُ الْعَيْنَ بِمَنْعِ النَّظَرِ، وَهَكَذَا، ثُمَّ الْمُعَاتَبَةُ وَالْمُعَاقَبَةُ إنْ نَقَصَ مِنْهُ بِنَحْوِ الْجُوعِ، وَالْعَطَشِ، وَالسَّهَرِ، وَالنَّذْرِ بِالتَّصَدُّقِ وَنَحْوِهِ مِن الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ؛ كَالصَّوْمِ، وَالِاعْتِكَافِ، وَالْحَجِّ، حَتَّى لَا يَرْجِعَ إلَيْهِ ثَانِيًا. اهــ.

ولكن كل هذا إنما يكون بالحد الذي لا يصل به إلى تعذيب النفس، أو إلحاق الضرر بها، فإن وصل إلى الحد الذي يتضرر به البدن، أو يعجز به عن أداء الفرائض؛ فقد انحرف عن الطريق، وصار عاصيا.

قال ابن رجب في لطائف المعارف: من منعها حقها من المباح حتى تضررت بذلك، فقد ظلمها، ومنعها حقها، فإن كان ذلك سببا لضعفها، وعجزها عن أداء شيء من فرائض الله عليه، وحقوق الله -عز وجل- أو حقوق عباده كان بذلك عاصيا، وإن كان ذلك سببا للعجز عن نوافل هي أفضل مما فعله كان بذلك مفرطا مغبونا خاسرا. اهــ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني