الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أحكام اتخاذ الكلب للمنافع وبيعه وشراؤه

السؤال

نعيش في بلد يعاني الناس فيه من صعوبة العيش، وقد علمنا بوجود كمأة تحت الأرض ذات قيمة غالية في غابات بلدنا، والناس يبحثون عنها بالكلاب المعلمة، فهل يجوز هذا -أعني استعمال الكلب لهذا الغرض؟ وهل يجوز اقتناء الكلب المعلم لهذا الغرض، مع استثناء النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الكلاب: كلب الصيد، والماشية، والزرع؟ وهل يجوز لمن يريد هذا العمل أن يشتري له كلبا معلما إن لم يجد بدا من اقتنائه، والناس يرجون الجواز حتى يكون عونا لمعيشتهم؟
أرجو الله لنا ولكم التوفيق، وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الظاهر من كلام جمع من أهل العلم أنه لا حرج في استعمال الكلاب في المنافع قياسا له على ما نص عليه من حراسة زرع، أو ماشية، أو صيد، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أمسك كلبا فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط، إلا كلب حرث، أو ماشية. رواه البخاري، ومسلم.
وعنه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية، أو صيد، أو زرع: انتقص من أجره كل يوم قيراط. رواه مسلم.
قال ابن عبد البر في التمهيد -14/ 218: وفي هذا الحديث من الفقه إباحة اتخاذ الكلاب للصيد والماشية، وكراهية اتخاذها لغير ذلك.... وفي معنى هذا الحديث تدخل عندي إباحة اقتناء الكلاب للمنافع كلها، ودفع المضار إذا احتاج الإنسان إلى ذلك... وقد أجاز مالك وغيره من الفقهاء اقتناء الكلاب للزرع، والصيد، والماشية، ولم يجز ابن عمر اقتناءه للزرع، ووقف عندما سمع، وزيادة من زاد في هذا الحديث الحرث والزرع مقبولة، فلا بأس باقتناء الكلاب للزرع، والكرم، وإنها داخلة في معنى الحرث، وكذلك ما كان مثل ذلك، كما يقتنى للصيد، والماشية، وما أشبه ذلك، وإنما كره من ذلك اقتناؤها لغير منفعة، وحاجة وكيدة، فيكون حينئذ فيه ترويع الناس وامتناع دخول الملائكة في البيت، والموضع الذي فيه الكلب، فمن ههنا -والله أعلم- كره اتخاذها، وأما اتخاذها للمنافع: فما أظن شيئا من ذلك مكروها، لأن الناس يستعملون اتخاذها للمنافع، ودفع المضرة قرنا بعد قرن في كل مصر وبادية فيما بلغنا -والله أعلم- وبالأمصار علماء ينكرون المنكر، ويأمرون بالمعروف، ويسمع السلطان منهم، فما بلغنا عنهم تغيير ذلك، إلا عند أذى يحدث من عقر الكلب ونحوه، وإن كنت ما أحب لأحد أن يتخذ كلبا، ولا يقتنيه إلا لصيد، أو ماشية في بادية، أو ما يجري مجرى البادية من المواضع المخوف فيها الطرق والسرق، فيجوز حينئذ اتخاذ الكلاب فيها للزرع وغيره، لما يخشى من عادية الوحش وغيره.. اهـ.

وقال النووي في شرح مسلم: اختلف في جواز اقتنائه لغير هذه الأمور الثلاثة، كحفظ الدور والدروب، والراجح: جوازه قياسا على الثلاثة، عملا بالعلة المفهومة من الحديث، وهي: الحاجة. اهـ.

وأما شراء الكلب المأذون فيه، فقد منعه الجمهور، لما في الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وأخبر أن ثمن الكلب خبيث، وجوزه بعض الحنفية والمالكية مستدلين بحديث النسائي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: رجاله ثقات.

قال ابن رشد في البيان والتحصيل -18/ 611: وسئل ابن كنانة فقيل له: هل يكره للرجل أن يبتاع الكلب كما يكره للبائع بيعه، فإن الرجل ربما احتاج إلى كلب لغنمه أو لصيد؟ قال: البائع في ذلك أضيق حالا؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نهى عن ثمن الكلب ـ وأما المشتري: فإن احتاج إلى ذلك فيما يجوز له اقتناؤه من الكلاب فلا بأس بابتياعه، وذلك ربما عسرت الهبة والمعروف ووقعت الحاجة إلى ذلك، قال محمد بن رشد: إجازة ابن كنانة لاشتراء الكلب الضاري هو مذهب ابن القاسم، روى أبو زيد عنه في سماعه من كتاب جامع البيوع أنه قال: لا بأس باشتراء الكلاب كلاب الصيد، ولا يعجبني بيعها، وذلك نحو قول أشهب في المدونة في الزبل المشترى يجوز في شرائه من البائع؛ لأن الحاجة قد تدعوه إلا شراء الكلب للصيد وشبهه مما جوز له اتخاذه له، وكذلك الزبل إذا لم يجد من يعطيه ذلك دون ثمن، ولا حاجة بأحد إلى بيعه؛ لأنه إذا لم يحتج إليه تركه لمن يحتاج إليه، وسحنون يجيز بيعه، قال ويحج بثمنه، وهو قول ابن نافع، وقد روي ذلك عن ابن كنانة، وهو قول جل أهل العلم والصحيح في النظر... اهـ.

وجاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق -4/ 125: قال - رحمه الله - صح بيع الكلب، وعن أبي يوسف أنه لا يصح بيع الكلب العقور؛ لأنه لا ينتفع به فصار كالهوام المؤذية، وقال الشافعي -رحمه الله- لا يجوز بيع الكلب أصلا لنهيه -عليه الصلاة والسلام- عن بيع الكلب وقال -عليه الصلاة والسلام: إن من السحت مهر البغي، وثمن الكلب، ولأنه نجس العين فصار كالخنزير، ولنا ما روي عن ابن عباس أنه -عليه الصلاة والسلام: نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد، أو ماشية ـ وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه - عليه الصلاة والسلام - قضى في كلب بأربعين درهما، ولأنه مال متقوم آلة الاصطياد فيصح بيعه كالبازي، ألا ترى أن الشرع أباح الانتفاع به حراسة واصطيادا، فكذا بيعا، ولأنه يجوز تمليكه بغير عوض كالهبة، والوصية فكذا بعوض، بخلاف الخنزير؛ لأنه نجس العين كالميتة ألا ترى أنه لا يجوز الانتفاع به شرعا، والكلب ليس بنجس العين، وبخلاف الهوام المؤذية؛ لأنها لا ينتفع بها، وما رواه الشافعي محمول على ابتداء الإسلام حين كان - عليه الصلاة والسلام - يأمر بقتل الكلاب؛ لأنه روي عن إبراهيم: أنه -عليه الصلاة والسلام- رخص في ثمن كلب الصيد ـ فلفظ الرخصة يدل على الاستباحة، ولا فرق في ذلك بين جميع أنواع الكلاب المعلم وغير المعلم... اهـ.

وراجع الفتوى: 123148.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني