الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن الشهادتين كثيرة جدًّا، منها المطلقة، ومنها المقيدة، ولا يصح الاحتجاج بالمطلقة دون النظر إلى المقيدة، فمثلًا قوله صلى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة. رواه الحاكم بسند صحيح، وصححه النووي، وقوله صلى الله عليه وسلم: من مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة، فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. رواه البخاري، ومسلم، من الأحاديث المطلقة العامة.
وقد جاء ما يخصصها، ويفسرها، كقوله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله. رواه مسلم. فلا بدّ من الكفر بكل ما يعبد من دون الله، مع قوله: لا إله إلا الله.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في قرة عيون الموحدين: فيه دليل على أنه لا يحرم ماله، ودمه، إلا إذا قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، فإن قالها، ولم يكفر بما يعبد من دون الله، فدمه، وماله حلال؛ لكونه لم ينكر الشرك، ويكفر به، ولم ينفه، كما نفته لا إله إلا الله، فتأمل هذا الموضع، فإنه عظيم النفع. انتهى.
ومن الأحاديث المخصصة: قوله صلى الله عليه وسلم: من شهد أن لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل. رواه البخاري، ومسلم. قال في فتح المجيد: قوله: "من شهد أن لا إله إلى الله"، أي: من تكلم بها، عارفًا لمعناها، عاملًا بمقتضاها، باطنًا وظاهرًا، فلا بد في الشهادتين من العلم، واليقين، والعمل بمدلولها، كما قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [محمد:19]، وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف:86]، أما النطق بها من غير معرفة لمعناها، ولا يقين، ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول، والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فغير نافع بالإجماع. قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم:- باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بدّ من استيقان القلب ـ هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين، كافٍ في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده. بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها. ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح. وهو باطل قطعًا. انتهى.
وقوله: "من شهد"، يستفاد منه أن الشهادة لا تصح، إلا إذا كانت عن علم، ويقين، وصدق، وإخلاص.
وهذه هي شروط لا إله إلا الله، التي لا بد منها لكي تكون لا إله إلا الله صحيحة مقبولة، من قالها دخل الجنة، فلا بدّ من قولها، مع العلم بها؛ لما تقدم من الأدلة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة. رواه مسلم. ولقوله صلى الله عليه وسلم: فمن لقيت وراء هذا الحائط، يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقنًا بها قلبه، فبشره بالجنة. رواه مسلم. ولا بدّ من الإخلاص في قولها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرم على النار، من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله.. رواه البخاري، ومسلم.
ولا بدّ من الصدق المنافي للكذب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصًا، يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه. رواه أحمد.
ولا بدّ من القبول المنافي للرد، وقد أخبر الله أن المشركين يردون هذه الكلمة قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ {الصافات:35}، وهذا هو الشرط الخامس من شروط لا إله إلا الله.
أما السادس، فهو: الانقياد المنافي للترك، قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ {الزمر:54}، وقوله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا {النساء:65}.
والسابع، والأخير: المحبة لهذه الكلمة، ولأهلها، المنافية لضدها، والأدلة على ذلك كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان. رواه أبو داود. وصححه السيوطي. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ {البقرة:165}.
هذا بالإضافة إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به.
ولا بد من معرفة حق هذه الكلمة العظيمة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله. رواه البخاري، ومسلم. قال في فتح المجيد: وقد أجمع العلماء على أن من قال: "لا إله إلا الله"، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها: أنه يقاتل؛ حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.
والكلام حول حقوق هذه الكلمة يطول، ويمكن الرجوع في ذلك إلى فتح الباري شرح صحيح البخاري، وإلى شرح النووي على صحيح مسلم، وغيرهما.
والله أعلم.