الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شروط زكاة الأرض وأحكامها

السؤال

في بلدنا في السنوات الخمسين الماضية كثر ادخار الناس أموالهم في الأراضي والعقارات للربح وعدم المخاطرة في خسران أموالهم.
السؤال الآن ألا تتحول العقارات بهذه الطريقة إلى أموال نامية تخرج منها الزكاة وخصوصا أن العقارات في صدر الإسلام بل حتى وقت قريب جدا في بلادنا لم تكن بهذا النماء ولم تكن وعاء للادخار ولا للاستثمار؟ وهل من الممكن أن آمر المدخر لمليون جنيه مثلا بالزكاة مع عدم نمائهم لعدم قدرته على استثمار المبلغ بينما لو اشترى بهم مائة متر من الأرض لا يطالب بالزكاة مع أنه بمرور العام ستبلغ القيمة الفعلية لهذه القطعة الصغيرة مليونين أو أكثر ويقال له العقارات ليس عليها زكاة مع العلم أنه في الحالتين مدخر لماله.
أسأل الله العظيم لكم التوفيق والسداد وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا تجب الزكاة في مال، إلا ما جاء فيه النص، أو كان في معناه، وليس من ذلك أموال القنية عمومًا -ومنها الأراضي- إلا أن تُتخذ للتجارة.

قال ابن حزم في مراتب الإجماع، وابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع: واتفقوا على أن كل مال ما لم يكن إبلاً، أو بقرًا، أو غنمًا، أو جواميس، أو خيلاً، أو بغالاً، أو عبيدًا، أو عسلاً، أو عروضًا متخذة للتجارة، أو شيئًا تنبته الأرض - أي شيء كان - من نجم، أو حمل شجر، أو ورقها، أو حشيش، أو ذهبًا، أو فضة، أو ما خالطهما؛ فإنه لا زكاة فيه وإن كثر. اهـ.

وقال ابن حزم في المحلى: ومما اتفقوا على أنه لا زكاة فيه: كل ما اكتسب ‌للقنية لا للتجارة، من جوهر، وياقوت، ووطاء، وغطاء، وثياب، وآنية نحاس؛ أو حديد، أو رصاص، أو قزدير، وسلاح، وخشب، ودور وضياع، وبغال، وصوف، وحرير؛ وغير ذلك كله لا تحاش شيئًا. اهـ.

وعلى ذلك؛ فليس في الأرض المتّخذة للقنية زكاة.

وأمَّا وصف النماء في المال المزَكَّى، فليس المقصود به ارتفاع سعره وقيمته وإن كان للقنية، وإنما المقصود به أن ينمو بنفسه -كالحبوب، والثمار-، أو يرصد للنماء -كالنقود، وعروض التجارة، والماشية-؛ ولذلك يقسمون الأموال لثلاثة أقسام: مال نام بنفسه -كالزروع، والمواشي-، ومال مرصد للنماء -كالدراهم، والدنانير-، ومال غير نامٍ -كعروض القنية-. وانظر للفائدة الفتويين: 20273، 21281.

ثم إن أرض القنية لو جمعت مع ارتفاع سعرها، تأجيرها للانتفاع بغلتها، فلا تجب الزكاة في عينها أيضًا، وإنما تجب في غلتها بعد قبضها، إذا حال عليها الحول، كما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية:
أولاً: أن الزكاة غير واجبة في أصول العقارات والأراضي المأجورة.
ثانياً: أن الزكاة تجب في الغلة، وهي: ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض، مع اعتبار توافر شروط الزكاة، وانتفاء الموانع
. اهـ.

وإنما تجب الزكاة في عين الأرض إذا اتخذت للتجارة، فتكون من عروض التجارة لا عروض القنية.

واتخاذها للتجارة معناه: قصد الربح، وتقليب المال بالبيع.

قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: ‌التجارة ‌تقليب ‌المال وتصريفه لطلب النماء. اهـ.

وقال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: هي ‌تقليب ‌المال بالمعاوضة لغرض الربح. اهـ.

وقال المرداوي في الإنصاف: معنى نية التجارة أن يقصد التكسب به بالاعتياض عنه. اهـ.

وعلى ذلك؛ فمن اشترى أرضًا لا بنيّة الانتفاع بها واقتنائها، وإنما لبيعها، وتقليب المال، والربح عند ارتفاع السعر؛ فعليه الزكاة؛ لأنها بذلك تكون من عروض التجارة. ولكن من أهل العلم -كالمالكية- من يعاملها معاملة السلعة المحتكرة، فلا تجب زكاتها كل عام، وإنما تزكى مرة واحدة عند بيعها.

قال الباجي في المنتقى: الذي يدار من العروض للتجارات على وجه الادخار وانتظار الأسواق إذا اشتراه بعد أن زكى ماله، ثم باعه قبل أن يحول عليه الحول من يوم زكى المال: أنه لا زكاة عليه، لعدم الحول، وإن بقي عنده أعوامًا، فإنه لا يؤدي من ذلك المال زكاة حتى يبيع، فإن باع أدى زكاة واحدة، والإدارة في كلامه على ضربين:
أحدهما: أن يريد بالإدارة التقليب في التجارة، وهو الذي أراده هاهنا، فهذا لا زكاة على رب المال فيه، وإن أقام أعوامًا حتى يبيع، فيزكي لعام واحد.
والثاني: البيع في كل وقت ‌من ‌غير ‌انتظار ‌سوق، كفعل أرباب الحوانيت المديرين، فهذا يزكي في كل عام
. اهـ. وانظر الفتويين: 68308، 103072.

وأمَّا من اشترها للقنية وحفظ المال، وهو لا يجزم بنية التجارة، مع احتمال أنه يبيع إذا وجد ربحًا، فلا زكاة عليه.

قال ابن نجيم في الأشباه والنظائر: تشترط نية التجارة في العروض، ولا بد أن تكون مقارنة للتجارة، فلو اشترى شيئًا للقنية ‌ناويًا ‌أنه ‌إن ‌وجد ‌ربحًا ‌باعه، لا زكاة عليه. اهـ.

قال الحصكفي في الدر المختار: وشرط مقارنتها لعقد التجارة، وهو كسب المال بالمال بعقد شراء أو إجارة أو استقراض. ولو نوى التجارة بعد العقد، أو اشترى شيئًا للقنية ‌ناويًا ‌أنه ‌إن ‌وجد ‌ربحًا ‌باعه، لا زكاة عليه، كما لو نوى التجارة فيما خرج من أرضه. اهـ.

وتبقى مسألة تحرير معنى النية المعتبرة للتجارة في زكاة الأراضي: محل بحث ونظر.

قال الدكتور عبد الله السحيباني في بحثه (زكاة ‌الأراضي وقضاياها المعاصرة) المنشور في «مجلة البحوث الإسلامية» في مسألة: معنى النية المعتبرة للتجارة في زكاة الأراضي. قال: أعتقد أن هذه المسألة من أهم المسائل المطروحة في بحث زكاة الأراضي، كما أنها من أشكل المسائل، لأن كثيرًا من الناس لا ‌يدري ‌ما ‌معنى ‌نية ‌التجارة، ومتى تتحصل عنده نية التجارة؟ وهل هناك فرق بين نية التجارة ونية البيع؟ وهل يكفي فيها مجرد الإضمار أو العزم القلبي، أو لا بد من عمل آخر، يبين هذا العزم؟ وما الحكم عند التردد في النية؟ وهل يمكن أن يستدل بقرائن الأحوال على تعيين النية؟ ولعلِّي أن أوضح هنا بعض هذه الإشكالات المتعلقة بنية مالك الأرض، وأثر ذلك في إيجاب الزكاة أو عدم إيجابها، وذلك من خلال النقاط الآتية:
أولًا: متى تتحصل نية التجارة؟ وما الفرق بينها وبين نية البيع؟
من المسلَّم به أنه ليس كل من يريد بيع سلعة يريد التجارة بها، لأن مجرد البيع ليس بالضرورة أن يكون تجارة، فبيع السلع يكون لمقاصد أخرى، كالتخلص من السلعة، أو عدم الرغبة فيها أحيانا، أو وجود ضائقة، أو نحو ذلك، ولذا فقد ذكر الفقهاء أن التجارة في البيع معناها: "تقليب المال بقصد الأرباح". ويظهر من هذا أن نية التجارة في الأرض تغاير نية البيع، فقد ينوي الإنسان بيع الأرض وهو لا يريد المتاجرة فيها، وذلك كمن اشترى أرضا للسكنى أو الاستثمار، ولم يقصد عند الشراء بيعها للتجارة، ثم بدا له بيعها، لسبب أنه رغب عن الأرض، كأن يريد تغيير الموقع إلى موقع أنسب، فهذا في الحقيقة لم ينو التجارة، والذي يظهر أنه لا تجب على مثله زكاة، ولو مر حول أو أكثر على هذه النية... وبهذا يعلم أن تحصيل النية للتجارة في الأراضي أو العروض عموما يكون بتحري الربح ببيع العرض، لا بقصد البيع فقط.
ومما يؤيد هذا المعنى: أن الزكاة الواردة في الشرع إنما تجب في الأموال التجارية التي يراد منها إنماء المال وربحه، وهذا هو الإعداد للبيع الوارد في الحديث المتقدم: كان يأمرنا أن نخرج الزكاة من الذي يعد للبيع.
اهـ.

وقال أيضًا في مبحث شراء الأرض ‌لحفظ ‌المال، ونية التجارة في المستقبل، والانتظار إلى وقت ارتفاع الأسعار، قال: قد يشتري الإنسان الأرض وفي نيته أنه سيبيع متى ما تحصل له فيها ربح مناسب، لكن ليس هذه السنة ولا السنة المقبلة، بل ربما يشتري وهو يعلم أنه لن يبيع إلا بعد سنوات قد تصل إلى الخمس أو أكثر، وهذا يحصل عند بعض الناس يشتري من المخططات البعيدة عن البلد، في حال رخص الأرض، وينتظر إلى وقت قرب الناس ورغبتهم فيها بعد زمن حتى يرتفع سعرها، وهذا في الغالب، وربما يكون القصد من الشراء ادخارها للزمن، وحفظ المال.
فهل هذه النية المستقبلة في بيع الأرض موجبة لزكاتها، أو لا بد من كون نية البيع والتجارة في الوقت الحاضر؟ هذه المسألة -فيما أحسب- محل اتفاق بين أهل العلم ممن قال بوجوب زكاة العروض، فهم لا يختلفون في وجوب الزكاة على من احتكر السلعة التجارية عنده سنوات، بل يجب عليه أن يزكي قيمة هذه الأراضي كل حول عند الجمهور، خلافا لفقهاء المالكية الذين لا يوجبون الزكاة على المحتكر كل حول، بل تجب عندهم لزكاة مرة واحدة عند بيع الأرض.
وعلى هذا فلا تأثير لتأجيل نية البيع، ما دامت الأرض مرصدة للتجارة، والمقصود منها نماء المال
. اهـ.

وقال الدكتور فهد المشغل في بحثه (زكاة الأرض عند الفقهاء): معنى نية التجارة: أن ينوي عند تملك الأرض أنها للتجارة، والتجارة هي قصد التكسب والربح ... وهذا الشرط محل اتفاق عند الفقهاء ... أما الأرض التي تراد لحفظ المال ففي نظري أن الزكاة واجبة فيها؛ لأن صاحبها يريد المال في النهاية وهذا هو مقصود التجارة. اهـ.

وانظر للفائدة الفتوى: 169793.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني