الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإجماع على اشتراط تعيين النية في كل أنواع الصيام

السؤال

ما الدليل على اشتراط تعيين النية بين أجناس الصيام المختلفة؟
على سبيل المثال: إذا كان على رجلٍ صيام قضاء رمضان أربعة أيام، وكفارة ثلاثة أيام، ونذرٌ مطلق ثلاثة أيام، ثم نوى من الليل صيام الواجب (الفرض) دون تحديد نوعه، بل أطلق نية الفرض، فإن ذلك لا يكفي -عند جمهور العلماء- ولا يصح فرضًا، بل يقع نفلًا لعدم تعيين النية.
ولا دليل على هذا الاشتراط إلا النصوص العامة، مثل الحديث: "إنما لكل امرئ ما نوى"، غير أن ذلك لا يكفي دليلًا على اشتراط تعيين النية بين أنواع الصيام الواجب، فهذه الأنواع تختلف من حيث سبب الوجوب على المكلَّف، وليس في غير ذلك.
فمثلًا:
• رمضان فرضٌ من الله عز وجل.
• الكفارة سببها أن يُلزم المكلَّف نفسه بها، ككفارة فدية الحلق للمحرِم، أو كفارة الصيد، أو كفارة اليمين.
• النذر سببه أن يوجب المكلَّف على نفسه الصيام.
ولا خلاف في أن كيفية الصيام واحدة في هذه الأنواع كلها، فما يفسد به صيام قضاء رمضان، يفسد به صيام النذر والكفارة كذلك. كما أن النية تُشترط من الليل لثبوت الحديث في ذلك، بخلاف النفل.
والصيام ليس كالصلاة المفروضة، فالصلوات المفروضة لها وقتٌ محدد، وعدد ركعاتها يختلف، بينما لا يختلف صيام الفرض بأنواعه، كما سبق ذكره. وعليه، فلا معنى لاشتراط تعيين النية لصحة الصيام بين الأصناف المختلفة؛ لأنها -في حقيقتها- من جنسٍ واحد، وهو جنس الفرض الواجب، بخلاف النفل والتطوع.
كما أن المقصود هو صيام عدد الأيام التي في ذمة المكلَّف، والصيام هو إمساكٌ مع النية من الليل (في الواجب)، وهذا حاصلٌ بنية الفرض العامة والواجب.
ولو التزمنا باشتراط تعيين النية، لكان من كان عليه صيام نصف سنة بنذرٍ مطلق، وعليه صيام يومٍ واحد من رمضان، ثم صام هذه الأشهر الستة دون تعيين النية، لم يصح منه فرضًا، بل يُحكَم على صيامه كله بأنه نفل!
ولا يخفى ما في ذلك من المشقة الظاهرة على العوام، الذين لا يعرفون إلا الفرض والسنَّة بالعموم، وليس لديهم معرفة بتفاصيل أبواب النيات.
كما أنه لم يُنقل أن أحدًا من الصحابة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء يتعلق بتعيين النية في الصيام، فكان تركهم للسؤال دليلًا على عدم وجوبها، إذ إن غلبة الظن تقتضي وقوع ذلك، ولو كان تعيين النية واجبًا لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأين الدليل على وجوب تعيين النية؟!

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقطع السائل بأن النصوص العامة لا تكفي في الدلالة على اشتراط تعيين النية بين أنواع الصيام الواجب، غير صحيح! فالعمومات يصح الاستدلال بها إن سلمت من معارض أقوى، وإذا حصل الإجماع عليها قُطِع بدلالتها، فإن الإجماع دليل مستقل.

قال الماوردي في الحاوي الكبير: قال الشافعي -رضي الله عنه-: "ولا يجوز لأحد صيام فرض من شهر رمضان ولا نذر ولا كفارة، إلا أن ينوي الصيام قبل الفجر".
قال الماوردي: أما صيام النذر والكفارة، فلا بد فيه من نية من الليل إجماعًا
. اهـ.

وهو لا يعني بذلك إجماع أهل المذهب، وإنما يعني إجماع المذاهب كلها، ولذلك قال النووي في المجموع: قال الماوردي: فأما صوم النذر والكفارة، فيشترط له النية بإجماع المسلمين. اهـ.

وقال العمراني في البيان: ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام، واجبًا كان أو تطوعًا، إلا بالنية، وبه قال عامة العلماء. اهـ.

وعلّل ذلك ابن قاضي شهبة في بداية المحتاج، وزكريا الأنصاري في أسنى المطالب، فقالا: لأن الصوم ‌عبادةٌ ‌مضافةٌ ‌إلى ‌وقت؛ فوجب التعيين في نيتها؛ كالصلوات الخمس. اهـ.

وقال القرافي في الذخيرة: مقصود النية ‌تمييز ‌العبادات عن العادات، أو تمييز مراتب العبادات، ولا تمييز لهذا الصوم إلا بسببه، فوجبت إضافته إليه، كما تضاف الصلوات إلى أسبابها. اهـ.

وقال الأبهري في شرح المختصر الكبير: إذا صام عن نذرٍ أو فرضٍ غير رمضان عدد أيام رمضان، لم يجزه ذلك عن رمضان؛ لأنَّهُ لم ينوه، وإن كانت صورة ‌الصَّوم واحدةً؛ لاختلاف ‌النيَّة في ذلك. اهـ.

وإنما استثنى الفقهاء من وجوب التعيين: حال الضرورة فقط، كمن تيقن أن عليه صوم يوم، ونسي أهو من قضاء؟ أم نذر؟ أم كفارة؟ فهنا يكفيه نية الصوم الواجب دون تعيين، مراعاة لضرورة حاله.

قال العمراني في البيان: قال الصيمري: إذا علم أن عليه صومًا واجبًا لم يعرفه من شهر رمضان، أو نذر، فنوى صومًا واجبًا .. أجزأه، كمن نسي صلاة من خمس صلوات لم يعرف عينها.. فإنه يصلي الخمس. اهـ.

وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج: لو تيقن أن عليه صوم يوم وشك أهو قضاء أو نذر أو كفارة، أجزأه نية الصوم الواجب وإن كان مترددًا؛ للضرورة، ولم يلزمه الكل، كمن شك في واحدة من الخمس؛ لأن الأصل بقاء وجوب كل منها، وهنا الأصل براءة الذمة، ومن ثم لو كانت الثلاثة عليه فأدى اثنين وشك في الثالث، لزمه الكل. اهـ.

وعلى أية حال؛ فإن النية كما تميز العادة عن العبادة، تميز كذلك بين رتب العبادات وأسبابها.

قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: الغرض من النيات تمييز العبادات عن العادات، أو تمييز رتب العبادات ... وأما مثال تمييز رتب العبادات، فكالصلاة تنقسم إلى فرض ونفل، والنفل ينقسم إلى راتب وغير راتب، والفرض ينقسم إلى منذور وغير منذور ... وكذلك يميز صوم النذر عن صوم النفل، وصوم الكفارة عنهما، وصوم رمضان عما سواه ... ولا يكفيه مجرد نية القربة دون تعيين الرتبة. اهـ.

وهنا ننبه -الأخ السائل- على أنه ذكر في ثنايا سؤاله بعض المقدمات غير الصحيحة، ولسنا في حاجة لتتبع ذلك، طالما أنه لم يقل عالم معتبر -فيما اطلعلنا عليه- بعدم اشتراط تعيين النية بين أنواع الصوم الواجب! فإن هذا وحده كاف لهجر هذا الفهم وإبطاله، وقد حذّر الأئمة من ابتداع قول مُحدَث في مسائل العلم، لما في ذلك من مخالفة سبيل المؤمنين، والخروج عن إجماع العلماء السابقين.

وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد قوله: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"، وأنه كان يقول في المحنة: "كيف أقول ما لم يُقَل؟" مجموع الفتاوى.

وقال في التسعينية: كان أحمد يقول لهم فيما يقوله في المناظرة الخطابية: "‌كيف ‌أقول ‌ما ‌لم ‌يُقل؟" أي هذا القول لم يقله أحد قبلنا، ولو كان من الدين لكان قوله واجبًا، فعدم قول أولئك له يدل على أنَّه ليس من الدين. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني