الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اشتراط معلومية الثمن في الاستصناع ومحل جواز تعديله

السؤال

علمتُ من موقعكم الكريم أن الجهالة في الثمن، أو الأجل تُفسد العقد، فظهرت لي إشكالية كبيرة في هذا الأمر؛ لأني كنتُ أظن من قبل أن المسألة لا تخرج عن مجرد التراضي بين البائع والمشتري. لكنني قرأت في موقعكم أيضًا أن من يدخل المطعم ويأكل، ثم يُحاسب بعد ذلك، لا يجب عليه أن يعلم السعر قبل أن يأكل. ومثل ذلك شخصٌ آخر يشتري بضاعة ثم يُحاسب عليها بعد ذلك، دون تحديد السعر قبل عملية الشراء، لأن الأسعار شبه معروفة.
فأنا قبل أن أعلم أن الجهالة في الثمن تُفسد العقد، كنتُ أتعاقد مع مصنع يعمل بالصاج لتصنيع إكسسوارات معيّنة، بناءً على رسومات محددة أرسلها له، فيقوم بتصنيعها وإرسالها إلى مصنعي، ثم يُخبرني بالسعر في نهاية الشهر، فأرسل له المال. وكنت لا أدري ثمن المصنوع قبل العقد؛ لأنه يتعذر عليه تحديده قبل التصنيع، لعدم علمه بكمية ألواح الصاج التي سيستخدمها، أو الوقت الذي سيستغرقه تشغيل آلات الليزر والثني وغيرها. ومع ذلك، فأنا دائمًا راضٍ بالثمن، وأعلم أن المصنع يقدّم أسعارًا جيدة، فقد تعاملت مع غيره من قبل، وبالتالي لم أكن أسأله عن السعر. كما أني قلت: أنا راضٍ بالثمن، ولديّ علم تقريبي بالسعر، فربما أقدّره بألف، ثم يخبرني هو أنه ألف وخمسمائة، ومع هذا، فأنا في كل الأحوال راضٍ. ألا يكفي التراضي بين البائع والمشتري؟ أليس سبب النهي عن الجهالة هو الغرر الذي قد يفضي إلى النزاع؟
هذا الموضوع يُسبب لي حرجًا شديدًا، وقد نتفق على أعمال مثل صيانة السيارة، أو إصلاح الأجهزة، أو تصنيع أشياء، ولا يعلم المشتري السعر إلا بعد انتهاء البائع من العمل. وغالبًا ما يكون لدى المشتري علم تقريبي بالسعر، إما بسبب تجارب سابقة، أو لأنه راضٍ مسبقًا بأي ثمن يُذكر بعد الانتهاء. فماذا أفعل في كل العقود التي أبرمتُها من قبل، دون علمي المسبق بالثمن؟
لقد قرأت أنه يجب عليّ ردّ المبيع، لكن المبيع قد استُهلك، ولا أستطيع تقديره؛ لأنه كثير، كما لا يمكنني إجبار البائع على فسخ كل العقود السابقة.
أرجو تأكيد ما فهمته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: أن العقود التي أُبرمت واعتقد الطرفان حلّها، ثم تبيّن فسادها لاحقًا، فإنها تُصحّح لأنهم أمضوها عن اعتقاد بالجواز. فقد كنتُ أظن أن جهلي بالسعر لا يُفسد العقد، ما دمتُ راضيًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإذا كان العاقد يعتقد صحة العقد، ولا يعلم بفساده حين العقد، فإنه لا ينقض، خاصة إذا فاتت السلعة باستهلاك، أو بيع، أو غيره من التصرفات. وهذا هو ما نسبه السائل لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال -كما في مجموع الفتاوى-: أما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد: وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقرير: مثل المعاملات الربوية التي يبيحها مجوزو الحيل. ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته. ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بعضها؛ فإن هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة لم تنقض بعد ذلك؛ لا بحكم ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد. اهـ.

وأمّا ما أشار إليه السائل من الحرج الذي يقع فيه، فلا نوافقه عليه، فإن تحديد السعر أو الثمن في البيع، أو الاستصناع، أو غيرهما من عقود المعاوضات، لا يترتب عليه حرج شديد، وفي المقابل يوجد احتمال وقوع نزاع بين طرفي العقد بسبب عدم العلم بالثمن، ومنع هذا النزاع هو الذي يراعى في العقود الشرعية، فإن درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

وبخصوص العقد الذي أشار إليه السائل من طلب صنع بعض الأشياء من المصنع، فهذا ليس بيعًا، وإنما هو استصناع، والاستصناع كالبيع في اشتراط معلومية الثمن.

جاء في المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، في المعيار رقم (11) المتعلق بالاستصناع، في بيان صفة عقد الاستصناع وشروطه: عقد الاستصناع ملزم للطرفين إذا توافرت فيه شروطه، وهي: بيان جنس الشيء المستصنع، ونوعه، وقدره، وأوصافه المطلوبة، ومعلومية الثمن. اهـ.

وجاء في هذا المعيار عند بيان ما يتعلق بثمن الاستصناع: يشـترط أن يكون ثمن الاسـتصناع معلومًا عند إبرام العقد. اهـ.

وإذا كان سبب الحرج الذي ذكره السائل هو التغير السريع في تكلفة المستصنع، فهذا يمكن معالجته بالتراضي بين الطرفين، أو بالتحكيم الشرعي.

جاء في المعيار السابق: إذا وجدت ظروف طارئة تسـتدعي تعديل ثمن الاستصناع زيادة أو نقصًا، فإنه يجوز باتفاق الطرفين، أو بالتحكيم، أو بالرجوع إلى القضاء. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني