الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن إخبار الله الملائكة بجعل آدم خليفة في الأرض ليس من باب الاستئذان, وإنما من باب الإخبار فقط ، وأما سبب علم الملائكة بإفساد بني آدم فقد ذكر المفسرون أوجها فيه :
الوجه الأول: أن الملائكة قالت ذلك بعد إعلام الله تعالى لهم بطبيعة ذرية آدم عليه السلام ، وأنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء, وهذا مروي عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم كما نقل ذلك القرطبي وابن كثير فعن ابن عباس وابن مسعود أن الله تعالى قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا .
وقال قتادة : كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فلذلك قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها .
الوجه الثاني : أنهم لما سمعوا لفظ : خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد والفصل بين الناس فيما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم .
الوجه الثالث : ما نقله القرطبي رحمه الله وغيره : أن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء ، فبعث الله إليهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ، ثم خلق الله آدم فأسكنه إياها ، وهذا مروي عن ابن عباس وأبي العالية .
وليعلم أن قول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله وإنما هو كما قال ابن كثير رحمه الله : سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون : يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء, فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي : نصلي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال : إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . أي أعلم من المصحلة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم, فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل, ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون العباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون له والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم . انتهى كلام ابن كثير .
وأما تعليم الله لآدم الأسماء وسؤال الملائكة عنها فقد ذكر ابن كثير في التفسير : أنه مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم وهذا كان بعد سجودهم له, وإنما قدم هذا الفصل على ذلك لمناسبة مابين المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة حين سألوا عن ذلك ، فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ، ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بمافضل به عليهم في العلم فقال تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها . اهــ .
وإظهار الله فضل آدم على الملائكة لا ينافي اعتقاد الملائكة أنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله, وأنه لا يعلم غيب السموات والأرض إلا هو سبحانه وتعالى, وما اعتراف الملائكة بذلك إلا مظهر من مظاهر خضوعهم لله تعالى وقبولهم لحكمه .
وأما عقاب إبليس على عدم السجود فسببه أن الأمر بالسجود لآدم كان موجها لإبليس ولم يكن خاصا بالملائكة بدليل قوله تعالى : قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ {الأعراف: 12 } وقال ابن كثير في تفسيره : والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفةالأمر .
والله أعلم .