الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تضرب الوجه

لا تضرب الوجه

لا تضرب الوجه

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه، سواء كان على سبيل التأديب، أوْ التعليم، أو إقامة حَدٍّ أو تعزير، ومن مقاصد النهي النبوي عن ضرب الوجه: تكريمه وعدم إهانته، فهو الصورة الكريمة التي خلق الله عز وجل عليها ابن آدم، وكرمه بها، وأيضاً لما في ضرب الوجه من أضرار نفسيّة وبدنية.. والسيرة والسنة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحاديث الدالة على النَّهي عن ضرب الوجه، ومن ذلك:

النهي عن ضرب الوجه عامة :

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ضرَب أحَدُكم فليتَّقِ الوَجْه) رواه أبو داود وصححهالألباني. قال الصنعاني: "وهذا النهي عام لكل ضرب ولطم من تأديب أو غيره". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْه) رواه البخاري، قال القاري: "أَيْ: ضَارَبَ غيره، (فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْه): أَيْ: فَلْيَحْتَرِزْ عَنْ ضَرْب الوجه، قيل: الأمر لِلنَّدْب، لأنَّ ظاهر حال المسلم أَنْ يكون قتاله مع الْكُفَّار، والضَّرْب في وجوههم أَنْجَح للْمَقْصود"، وقال العيني: "إذا وجب اجتناب الوجه عند القتال مع الكافر، فاجتناب وجه العبد المؤمن أوجب". وفي صحيح مسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه، فليتجنَّبِ الوجه)، وفي رواية أخرى: (إذا ضرب أحدُكم). (إذا قاتل) يعني: إذا ضرب ودافع كما ثبت في الرواية الثانية. قال القاري: "أي إذا ضرب أحدكم شخصاً تأديباً أو تعزيراً له، أو في حَدٍّ من حدود الله تعالى فليحذر أن يضربه على وجهه، وليبتعد عن ذلك كل البعد". وقال العراقي: "والمراد أنه إذا حصلت مُقَاتَلة من الجانبين، ولو في دفْع صَائِلٍ (ظالم ومعتدي) ونحوه يتقي وجهه، فما ظنك بما إذا لم يقع من الجانب الآخر ضرب فهو أوْلى بأن يتقي الوجه، لأن صاحب المدافعة قد تضطره الحال إلى الضرب في وجهه، ومع ذلك نُهِي عنه، فالذي لا يدافعه المضروب أوْلى بأن يؤمر باجتناب الوجه".

مع الزوجة :

عن معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه قال: (قلتُ: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تُطْعِمَها إذا طَعِمْتَ، وتكسوها إذا اكْتَسَيْت، ولا تضرب الوجه، ولا تُقَّبّح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال القاري: "(لا تضرب الوجه): فإنه أعظم الأعضاء وأظهرها ومشتمل على أجزاء شريفة وأعضاء لطيفة"، وقال ابن عثيمين: "فلا تضربها إلا لسبب، وإذا ضربتها فاجتنب الوجه وليكن ضرباً غير مبرح.. وكذلك غير الزوجة لا يُضْرَب على الوجه، فالإبن إذا أخطأ لا يُضْرَب على الوجه، لأن الوجه أشرف ما في الإنسان، وهو واجهة البدن كله، فإذا ضُرِبَ كان أذل للإنسان مما لو ضُرِبَ غير وجهه، يعني يُضْرَب الرجل على كتفه، على عضده، على ظهره، فلا يرى بذلك أنه استُذِل كما لو ضربتَه على وجهه، ولهذا نُهِيَ عن ضرب الوجه وعن تقبيح الوجه".

فائدة في جواز ضرب الزوجة والإبن :

ـ إذا كان ضرب الزوج زوجته في غير الوجه على وجه التأديب مباح إذا لم ينفع معها الوعظ والهجر، إلا أن ترك الضرب عامة أفضل إذا أمكن إصلاح الزوجة بدون ضرب، وإن استلزم ذلك الصبر عليها والإحسان إليها، والاستمرار على معالجة عصيانها بالوعظ والهجر، لدلالة بعض الأحاديث النبوية على أن الأوْلى والأفضل هو ترك الضرب مطلقاً، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً له، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئاً) رواه ابن ماجه وصححه الألباني. قال القاضي ابن العربي في أحكام القرآن: "قال عطاء: لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم تُطِعْه، ولكن يغضب عليها. قال القاضي: هذا من فقه عطاء، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب ها هنا أمْر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زمعة: (إني لأكره للرجل يضرب أمته عند غضبه، ولعله أن يضاجعها في يومه)، وروى ابن نافع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استؤذن في ضرب النساء فقال: (اضربوا، ولن يضرب خياركم)، فأباح (الضرب) وندب إلى الترك".
وقال ابن حجر في فنح الباري": "وقد جاء النهي عن ضرب النساء مطلقا، فعند أحمد وأبي داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب: (لا تضربوا إماء الله)، فجاء عمر فقال: قد ذئر (اجترأت) النساء على أزواجهن، فأذن لهم، فضربوهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير، فقال: لقد أطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة كلهن يشكين أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم)، وله شاهد من حديث ابن عباس في صحيح ابن حبان".

ـ وقال ابن عثيمين: ".. والإبن إذا أخطأ لا يُضْرَب على الوجه، لأن الوجه أشرف ما في الإنسان، وهو واجهة البدن كله، فإذا ضُرِب كان أذل للإنسان مما لو ضُرِبَ غير وجهه". وإذا كان أهل العلم يقولون بجواز ضرب الأب أو الأم أولادهما للتأديب والتربية، كضربهم مثلا على ترك الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه أبو داود وحسنه الألباني، إلا أنه لا يُلجَأ لضرب الولد إلا بعد استخدام الأساليب التربوية الأخرى كالتوجيه بالحكمة والكلمة الحسنة، والرفق والإحسان، وأن يكون ابتداء الضرب من سن العاشرة، وليس كل خطأ يُضْرَب عليه، وأن تكون عقوبة الضرب موافقة للخطأ، فلا يُزاد عليها، وألا يكون الضرب مؤذياً للطفل، ولا يكون أمام الناس أو أحد من أقربائه ونحو ذلك، وألا يضرب الأب وهو في حالة الغضب حتى يدرك ما يفعل، وإذا وقع الضرب على الإبن للتأديب فهو مُقَيَّد بوصف السلامة، ومحله في الضرب المعتاد كمَّاً وكيْفاً ومحلاً، ولا يضرب الوجه مطلقا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ضرب أحدكم، فليجتنب الوجه، ولا يقل قبح الله وجهك) رواه أحمد. هذا وينبغي أن يُعْلَم أن الضرب عند الحاجة إليه، إنما هو ضرب تهذيب وتأديب، لا ضرب انتقام وتعذيب.

النهي عن ضرب وجه الخادم :

عن هلال بن يساف قال: (عجِل شيخٌ فلطم خادماً (خادم أو خادمة) له، فقال له سُويد بن مُقرِّن: عَجَزَ عليْك إِلَّا حُرُّ وجهِها، لقد رأيتُني سابعَ سبعةٍ من بني مُقرِّنٍ ما لنا خادمٌ إلا واحدةً، لطمها أصغرُنا، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها) رواه مسلم. قال النووي: " قوله (عجز عليك إلا حُرُّ وجهها) معناه عجزت ولم تجد أن تضرب إلا حر وجهها، وحر الوجه صفحته ومارَقَّ من بشرته، وحر كل شيء أفضله وأرفعه .. قوله (فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها) هذا محمول على أنهم كلهم رضوا بعتقها وتبرعوا به، وإلا فاللطمة إنما كانت من واحدٍ منهم، فسمحوا له بعتقها تكفيراً لذنبه".. وقال: "قال العلماء: هذا تصْريح بالنَّهي عن ضرب الوجه، لأنَّه لطيف يجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطيفة، وأكثر الإدراك بها، فقد يُبطلها ضربُ الوجه، وقد ينقصها، وقد يُشَوِّه الوجه، والشَّيْن فيه فاحش، لأنَّه بارز ظاهر لا يُمكن ستره، ومتى ضربه لا يسلم من شَيْن غالباً، ويدخل في النَّهي إذا ضرب زوجته أوْ ولده أو عبده ضربَ تأديب، فليجتنب الوجه". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "ولم يتعرض النووي لحكم هذا النهي (عن ضرب الوجه) وظاهره التحريم".. وقال: "ويدْخُل في النَّهْي كلّ مَنْ ضُرِبَ في حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ تَأْدِيب".
وقال القاضي عياض: "فى هذا الحديث: الرفق بالمماليك، وحسن صحبتهم.. وعتقه هنا ليس على الوجوب عند أهل العلم، وإنما هو على الترغيب ورجاء كفارة ذنبه فيه وظلمه له، ويدل أنه ليس على الوجوب حديث ابن سويد بعده عن أبيه، عن النبى صلى الله عليه وسلم، لما لطم أحدهم خادمهم وأمرهم النبى صلى الله عليه وسلم بعتقه، فقالوا: ليس لنا خادم غيرها، قال: (فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها)".

النهي عن ضرب الحيوان في وجهه :

من جميل وعجيب رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته، أنَّ أمْره باتقاء ضرب الوجه لم يقتصر على الإنسان، بل نهى كذلك صلى الله عليه وسلم عن ضرب وجه الحيوان، وهذا من باب الرحمة النبوية بالحيوان التي من صورها ومظاهرها: نهيه عن اتخاذ شيء فيه الروح هدفاً يُتعلم فيه الرمي، ونهيه أن يحول أحد بين حيوان أو طير وبين ولده، ونهيه عن المُثْلة بالحيوان ـ وهو قطع قطعة من أطرافه وهو حي، ولعن من فعل ذلك ـ، ونهيه عن وسْمِه (كويه) في وجهه، ومنها كذلك: نهيه صلى الله عليه وسلم عن ضرب وَجْه الحيوان، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بحمارٍ قد وُسِمَ في وجْهِه، فقال: أما بلغكم أنِّي قد لعَنتُ من وسمَ البَهيمة في وجْهِها، أو ضربَها في وجْهِها، فنَهى عن ذلك) رواه أبو داود وصححه الألباني. ففي هذا الحديث جواز ضرب الحيوان لمصلحة وغرض صحيح، كضرب الحيوان الشارد عن القطيع لغرض التأديب والإمساك به، بشرط أن يكون في غير الوجه، وألاَّ يبالغ في الضرب.

لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم طوال حياته أنه ضرب طفلاً أو زوجة أو خادماً أبدا، لا في الوجه ولا في غيره، وهذا من حكمته ورحمته، وحسن شمائله وعظيم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً له، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئاً).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة