من النظائر القرآنية قوله تعالى: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين} (القصص:20) وقوله سبحانه: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} (يس:20)، لسائل أن يسأل عن تأخير الفاعل في سورة (يس) {رجل} عن المجرور {من أقصى المدينة} ولِمَ لم يأت متقدماً يلي الفعل، كما هو الأصل، وكما ورد في سورة القصص؟ هذا هو السؤال، مدار هذا المقال.
فيقال بداية: إن وروده في سورة القصص متقدماً: {وجاء رجل من أقصى المدينة} وارد على ما يجب؛ لأن مرتبة الفاعل التقديم، ولا يتأخر عن الفعل إلا لعارض من جهة اللفظ، أو من جهة المعنى، أو اتساعاً في الكلام.
ثم إن المفسرين أجابوا بعدة أجوبة لتقدم الجار والمجرور على الفاعل في قوله عز وجل: {وجاء من أقصى المدينة رجل}، نقف عند أبرزها:
- أجاب ابن الزبير الغرناطي (ت708هـ) عن هذا السؤال بأن في تقديم الجار والمجرور على الفاعل معنى جليلاً؛ وهو أن هذا الرجل الداعي مع بُعد المسافة بينه وبين من يدعوهم إلى الهداية، لم يلقِ بالاً لذلك، بل مضى إلى ما هو قاصد إليه من هداية قومه، ولم يضره بُعدُ الدار، وكُفْرُ من أعرض عن الرسل، فلم ينتفع بقرب الدار. فلما قصد في آية (يس) مثال من ذُكِرَ من الفريقين {أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون} (يس:13)، خُصت من تقديم المجرور على الفاعل، ما يحرز المعنى المقصود، فهو من قبيل ما قُدِّم للاعتبار والاهتمام، فلإحراز هذا المعنى قُدِّمِ هذا المجرور، وتأخر الفاعل. أما آية القصص فلم يُقْصَد فيها شيء من هذا، فجاءت على ما يجب من تقديم الفاعل، وتأخير الجار والمجرور.
- وأجاب ابن رجب الحنبلي (ت795هـ) عن السؤال بقوله: "إن الفائدة في تقديم ذكر الرجل وتأخيره: أن ذكر الأوصاف قبل ذكر الموصوف أبلغ في المدح من تقديم ذكره على وصفه؛ فإن الناس يقولون: الرئيس الأجلُّ فلان"، قال: "فنظرتُ، فإذا الذي زِيْدَ في مدحه -وهو صاحب (يس)- أمر بالمعروف، وأعان الرسل، وصبر على القتل، والآخر إنما حذر موسى من القتل، فسَلَّم موسى بقبوله مشورته. فالأول هو الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والثاني هو ناصح الآمر بالمعروف. فاستحق الأول الزيادة. ثم تأملت ذِكْرَ {أقصى المدينة}، فإذا الرجلان جاءا من بُعْدٍ في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق".
- أما الشهاب الخفاجي (ت1069هـ) فقد رأى أنه "قدَّم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقدم؛ بياناً لفضله؛ إذ هداه الله مع بعده عنهم، وأن بُعْدَه لم يمنعه عن ذلك؛ ولذا عبر بـ {المدينة} هنا بعد التعبير بـ {القرية} في قوله سبحانه: {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون} (يس:13) إشارة للسعة، وأن الله يهدي من يشاء، سواء قَرُب أم بُعد".
- وذهب أبو حيان الأندلسي (ت745هـ) إلى أن تقدُّم الجار والمجرور {من أقصى المدينة} في سورة (يس) وتأخره في سورة (القصص) إنما هو من باب التفنن في البلاغة.
- وبحسب ابن عاشور (1393هـ) فإن فائدة ذِكْرِ أنه {جاء من أقصى المدينة} "الإشارة إلى أن الإيمان بالله ظهر في أهل أطراف المدينة، قبل ظهوره في قلب المدينة؛ لأن قلب المدينة هو مسكن حكامها وأحبار اليهود، وهم أبعد عن الإنصاف، والنظر في صحة ما يدعوهم إليه الرسل، وعامة سكانها تبع لعظمائها؛ لتعلقهم بهم وخشيتهم بأسهم، بخلاف سكان أطراف المدينة، فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر، وقلة اكتراث بالآخرين؛ لأن سكان الأطراف غالبهم عملة أنفسهم لقربهم من البدو.
وبهذا يظهر وجه تقديم {من أقصى المدينة} على {رجل} للاهتمام بالثناء على أهل {أقصى المدينة}، وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط، وأن الإيمان يسبق إليه الضعفاء؛ لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترف وعظمة؛ إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة.
وأما قوله تعالى في سورة القصص {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} فجاء النظم على الترتيب الأصلي؛ إذ لا داعي إلى التقديم؛ إذ كان ذلك الرجل ناصحاً، ولم يكن داعياً للإيمان". انتهى كلام ابن عاشور.
ثم إن ابن الزبير رأى في الإخبار بهذه الآيات مثالاً لحال كفار قريش من أهل مكة، وحال الأنصار من أهل المدينة، حين جاء هؤلاء وآمنوا به صلى الله عليه وسلم مع بُعد دارهم، وعاند عتاة قريش، فكفروا مع الالتحام في النسب واتحاد الدار، ويوضح هذا أن السورة مكية، وإنما افتتحت بذكر قريش، وهم المعنيون بقوله: {لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون} (يس:6) وما بعدها من الآيات، والإخبار بأن ذلك لا يجدي عليهم في قوله: {وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (يس:10) فهذا الإخبار بحال كفار قريش، ثم قال تعالى: {إنما تنذر من اتبع الذكر} (يس:11) أي: من انقاد وأصغى إليك، وإن بعُدَت داره، وهذا حال الأنصار، ثم قال: {واضرب لهم مثلا} (يس:13) أي: الفريقين ممن كفر مع قُرب داره، ومن آمن مع بُعد داره، وذكر تعالى أصحاب القرية، وحالهم مع من أرسل إليهم، وأنهم أرسل إليهم اثنان، ثم عززوا بثالث، فجاوبهم أصحاب القرية المخاطبون مجاوبة الرد والتكذيب، فقالوا: {ما أنتم إلا بشر مثلنا} (يس:15) كما قالت قريش: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} (الفرقان:7) ثم ذكر تعالى قول الرسل لأصحاب القرية: {قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين} (يس:16-17) وقول أصحاب القرية: {إنا تطيرنا بكم} (يس:18) فلما ذكر سبحانه هذه المحاورة والمراجعة، قال تعالى: {وجاء من أقصى المدينة) (يس:20) أي: ممن لم يحضر معهم، ولا شاهد ما طال من مراجعتهم، فجاء بحسب ما سبق له من السعادة، يقول: {يا قوم اتبعوا المرسلين} (يس:20) إلى ما أخبر تعالى من قوله، فمجيئه من أقصى المدينة مثال لمن بَعُدَ، فلم يضره بُعده، وذِكْرُه المراجعين للرسل من أصحاب القرية، مثال لمن قَرُب، وطالت مباشرته، وشاهد الآيات، فلم ينفعه قربُه.
وقد وضح بما تقدم من أجوبة، أنَّ كلًّا من الموضوعين لا يناسبه ولا يلائمه غير الوارد فيه. والله سبحانه أعلم.