الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        المسألة السابعة : في الرد على من أنكر الاستثناء

                        قد قال قائل : إن الاستثناء في لغة العرب متعذر ; لأنه إذا قيل : قام القوم إلا زيدا ، فلا يخلو إما أن يكون داخلا في العموم ، أو غير داخل ، قال : والقسمان باطلان .

                        أما الأول : فلأن الفعل لما نسب إليه مع القوم امتنع إخراجه من النسبة ، وإلا لزم توارد الإثبات والنفي على محل واحد ، وهو محال .

                        وأما الثاني : فلأن ما لا يدخل لا يصح إخراجه .

                        وأجاب الجمهور عن هذا : بأنه إنما يلزم توارد النفي والإثبات على محل واحد ، لو لم [ ص: 420 ] يكن الحكم بالنسبة بعد تقدير الإخراج ، أما إذا كان كذلك فلا توارد ، فإن المراد بقول القائل : جاءني عشرة إلا ثلاثة ، إنما هو سبعة ، و ( إلا ثلاثة ) قرينة إرادة السبعة من العشرة ، إرادة الجزء باسم الكل ، كما في سائر المخصصات للعموم .

                        ورده ابن الحاجب بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج ، والعشرة نص في مدلولها ، والنص لا يتطرق إليه تخصيص ، وإنما التخصيص في الظاهر .

                        قال الزركشي : وما قاله من الإجماع مردود فإن مذهب الكوفيين أن الاستثناء لا يخرج شيئا ، فإذا قلت : قام القوم إلا زيدا فإنك أخبرت بالقيام عن القوم الذين ليس فيهم زيد ، وزيد مسكوت عنه ، لم يحكم عليه بالقيام ، ولا بنفيه .

                        قال بعض المحققين : وهذا الجواب الذي أجاب به الجمهور لا يستقيم غيره ; لأن الله سبحانه قال : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فلو أراد الألف من لفظ الألف لما تخلف مراده عن إرادته ، فعلم أنه ما أراد إلا تسعمائة وخمسين من لفظ الألف .

                        وأجاب القاضي أبو بكر الباقلاني : بأن قول القائل جاءني عشرة إلا ثلاثة ، بمنزلة سبعة من غير إخراج ، وأنهما كاسمين ، وضعا لمسمى واحد ، أحدهما مفرد ، والآخر مركب ، وجرى صاحب المحصول على هذا ، واختاره إمام الحرمين ، واستنكر قول الجمهور ، وقال : إنه محال لا يعتقده لبيب .

                        قال ابن الحاجب : وهذا المذهب خارج عن قانون اللغة إذ لم يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ وضع لمعنى واحد ; لأنا نقطع بأن دلالة الاستثناء بطريق الإخراج .

                        وأجاب آخرون : بأن المستثنى منه مراد بتمامه ، ثم أخرج المستثنى ، ثم حكم بالإسناد بعده تقديرا ، وإن كان قبله ذكرا ، فالمراد بقولك : ( عشرة إلا ثلاثة ) ، عشرة باعتبار الأفراد ، ثم أخرجت ثلاثة ، ثم أسند إلى الباقي تقديرا ، فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج .

                        قال ابن الحاجب : وهو الصحيح ، ورجحه الصفي الهندي ، وجماعة من أهل الأصول .

                        والفرق بين هذا الجواب ، والجواب الذي قبله بأن الأفراد في غير هذا مرادة [ ص: 421 ] بكمالها ، وفي الجواب الذي قبله هي مرادة بكمالها ، والاستثناء إنما هو لتفسير النسبة للدلالة على عدم المراد .

                        وأيضا الفرق بين هذه الثلاثة الأجوبة ، أن جواب الجمهور يدل على أن الثلاثة تخصيص ، وعلى الجواب الثاني ليست بتخصيص ، وعلى الثالث محتملة ، فقيل الأظهر أنها تخصيص ، وقيل ليست بتخصيص .

                        قال المازري : أصل هذا الخلاف في الاستثناء من العدد ، هل يكون الاستثناء فيه كقرينة غيرت وضع الصيغة ، أو لم تغيره ، وإنما كشفت عن المراد بها ، فمن جعل أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها ، قال بالأول ، وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما ، ويكون المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع هو الدال على العدد المنفي ، ومن لم يجعل أسماء العدد كالنصوص فإن العشرة استعملت في عشرة ناقصة ، جعل الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد بالمستثنى منه ، كما دل قوله لا تقتلوا الرهبان على المراد بقوله اقتلوا المشركين .

                        قال فالحاصل أن مذهب الأكثرين أنك استعملت العشرة في سبعة مجازا دل عليه قوله ( إلا ثلاثة ) ، والقاضي ، وإمام الحرمين عندهما أن المجموع يستعمل في السبعة ، وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة ، ثم حذفت منها ثلاثة ، ثم حكمت بالسبعة ، فكأنه قال له علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة أو عشرة إلا ثلاثة له عندي ، وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه ، فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه ، ثم أخرج الثلاثة ثم حكم ، كما أنك تخرج عشرة دراهم في الكيس ثم ترد منها إليه ثلاثة ، ثم تهب الباقي ، وهي السبعة . انتهى .

                        والظاهر : ما ذهب إليه الجمهور ; لأن الإسناد إنما يتبين معناه بجميع أجزاء الكلام ، وعلى كل حال ، فالمسألة قليلة الفائدة ; لأن الاستثناء قد تقرر وقوعه في لغة العرب ، [ ص: 422 ] تقررا مقطوعا به ، لا يتيسر لمنكر أن ينكره ، وتقرر أن ما بعد آلة الاستثناء خارج عن الحكم لما قبلها بلا خلاف ، وليس النزاع إلا في صحة توجيه ما تقرر وقوعه ، وثبت استعماله .

                        وما ذكرنا في المقام يكفي في ذلك ، ويندفع به تشكيك من شك في هذا الأمر المقطوع به ، فلا نطول باستيفاء ما قيل في أدلة تلك الأجوبة وما قيل عليها .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية