المسألة الموفية عشرين : التخصيص بالعقل
فقد فرغنا بمعونة الله من ذكر المخصصات المتصلة ، وهذا شروع في المخصصات المنفصلة .
[ ص: 444 ] وقد حصروها في ثلاثة أقسام : العقل ، والحس ، والدليل السمعي .
قال القرافي : والحصر غير ثابت ، فقد يقع التخصيص بالعوائد ، كقولك : رأيت الناس ، فما رأيت أفضل من زيد ، فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس ، وكذا التخصيص بقرائن الأحوال ، كقولك لغلامك ائتني بمن يخدمني ، فإن المراد الإتيان بمن يصلح لذلك ، ولعل القائل بانحصار المخصصات المنفصلة في الثلاثة المذكورة ، يجعل التخصيص بالقياس مندرجا تحت الدليل السمعي .
وقد اختلف في جواز التخصيص بالعقل :
فذهب الجمهور إلى التخصيص به ، وذهب شذوذ من أهل العلم إلى عدم جواز التخصيص به .
قال الشيخ : ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التخصيص بالعقل ، ولعله لم يعتبر بخلاف من شذ . أبو حامد الإسفراييني
قال في المحصول : إن التخصيص بالعقل قد يكون بضرورته ، كقوله تعالى : الفخر الرازي الله خالق كل شيء فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه ، وبنظره ، كقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فإن تخصيص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما ، ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل .
والأشبه عندي : أنه لا خلاف في المعنى بل في اللفظ ، أما أنه لا خلاف في المعنى فلأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور ، والعقل منع من ثبوته في بعض الصور ، فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل ، فيلزم من ذلك صدق النقيضين ، وهو محال ، أو يرجح النقل على العقل ، وهو محال ; لأن العقل أصل للنقل فالقدح في العقل قدح في أصل النقل ، والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا ، وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم ، وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل .
وأما البحث اللفظي : فهو أن العقل هل يسمى مخصصا أم لا ؟ فنقول : إن أردنا [ ص: 445 ] بالمخصص : الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته فالعقل غير مخصص ; لأن المقتضي لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم ، والنقل يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة ، فالعقل يكون دليل المخصص ، لا نفس المخصص ، ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ، ولا السنة مخصصة للسنة ; لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ . انتهى .
قال القاضي : وصورة المسألة أن صيغة العام إذا وردت ، واقتضى العقل عدم تعميمها فيعلم من جهة العقل أن المراد به ما قدمناه ، أنا نعلم بالعقل أن مطلق الصيغة لم يرد تعميمها . أبو بكر الباقلاني
وفصل الشيخ في اللمع بين ما يجوز ورود الشرع بخلافه ، وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فيمتنع التخصيص به ، فإن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به ، وصار الحكم للشرع ، فأما ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه ، كالذي دل العقل على نفيه ، فيجوز التخصيص به نحو أبو إسحاق الشيرازي الله خالق كل شيء فقلنا المراد ما خلا الصفات لدلالة العقل على ذلك . انتهى .
ولا يخفاك أن هذا التفصيل لا طائل تحته ، فإنه لم يرد بتخصيص العقل إلا الصورة الثانية ، أما الصورة الأولى ، فلا خلاف أن الشرع ناقل عما يقتضيه العقل من البراءة .
قال القاضي ، أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني ، وابن القشيري ، ، والغزالي وإلكيا الطبري ، وغيرهم : إن النزاع لفظي ، إذ مقتضى ما يدل عليه العقل ثابت إجماعا ، لكن الخلاف في تسميته تخصيصا ، فالخصم لا يسميه ; لأن المخصص هو المؤثر في التخصيص ، وهو الإرادة لا العقل ، وكذا قال الأستاذ أبو منصور : إنهم أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم ، واختلفوا في تسميته تخصيصا .
وقيل : الخلاف راجع إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليين فمن منع من تخصيص العقل ، فهو رجوع منه إلى أن العقل لا يحسن ، ولا يقبح ، وأن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل .
[ ص: 446 ] وقد أنكر هذا الأصفهاني ، وهو حقيق بأن يكون منكرا ، فالكلام في تلك المسألة غير الكلام في هذه المسألة ، كما سبق تقريره .
وقد جاء المانعون من تخصيص العقل بشبه مدفوعة كلها ، راجعة إلى اللفظ ، لا إلى المعنى ، وقد عرفت أن الخلاف لفظي ، فلا نطيل بذكرها .
قال الرازي في المحصول : فإن قيل : لو جاز التخصيص بالعقل ، فهل يجوز النسخ به ؟ قلنا : نعم ; لأن من سقطت رجلاه عنه ، سقط عنه فرض غسل الرجلين ، وذلك إنما عرف بالعقل . انتهى .
وأجاب غيره : بأن النسخ إما بيان مدة الحكم ، وإما رفع الحكم على التفسيرين ، وكلاهما محجوب عن نظر العقل ، بخلاف التخصيص ، فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل ، فلا ملازمة .
وليس التخصيص بالعقل من الترجيح لدليل العقل على دليل الشرع بل من الجمع بينهما لعدم إمكان استعمال الدليل الشرعي على عمومه لمانع قطعي ، وهو دليل العقل .