[ ص: 314 ] [ ص: 315 ] الفصل السادس : في أن الأمر بالشيء نهي عن ضده
ذهب الجمهور من أهل الأصول ، ومن الحنفية ، والشافعية ، والمحدثين والمحدثين إلى أن الشيء المعين المعين إذا أمر أمر به ، كان ذلك الأمر به نهيا عن الشيء المعين المعين المضاد له سواء كان الضد واحدا كما إذا أمره بالإيمان ، فإنه يكون نهيا عن الكفر ، وإذا أمره بالحركة ، فإنه يكون نهيا عن السكون ، أو كان الضد متعددا كما إذا أمره بالقيام ، فإنه يكون نهيا عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك .
وقيل : ليس نهيا نهيا عن الضد ، ولا يقتضيه عقلا ، واختاره الجويني والغزالي وابن الحاجب .
وقيل : إنه نهي نهي عن واحد من الأضداد غير معين ، وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية والمحدثين ، ومن هؤلاء القائلين بأنه نهي عن الضد من عمم ، فقال : إنه نهي نهي عن الضد في الأمر الإيجابي ، والأمر الندبي ، ففي الأول نهي تحريم ، وفي الثاني نهي كراهة ، ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي ، ومنهم أيضا من جعل النهي عن الشيء أمرا بضده كما جعل الأمر بالشيء نهيا نهيا عن ضده ، ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهيا نهيا عن ضده ، وسكت عن النهي ، وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه .
واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهيا نهيا عن ضده ، والنهي عن عن الشيء ليس أمرا بضده ، وذلك لنفيهم الكلام النفسي ، ومع اتفاقهم على هذا النفي أن نفي كون كل واحد منهما عينا لإثبات ضده أو نفيه اختلفوا هل يوجب كل من الصيغتين حكما في الضد ، أم لا ، فأبو هاشم ومتابعوه قالوا : لا يوجب شيء منهما حكما في الضد بل الضد مسكوت عنه ، وأبو الحسين وعبد الجبار قالا : الأمر يوجب حرمة الضد ، وفي عبارة أخرى عنهم يدل عليها ، وفي عبارة ثالثة عنهم يقتضيها .
[ ص: 316 ] وقال الرازي والقاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي وصدر الإسلام ، وأتباعهم من المتأخرين : الأمر يقتضي كراهة الضد ، ولو كان إيجابا ، والنهي يقتضي كون الضد سنة سنة مؤكدة ، ولو كان النهي تحريما .
وقال جماعة منهم صدر الإسلام وشمس الأئمة وغيرهما أن النزاع إنما هو في أمر الفور لا التراخي ، وفي الضد الوجودي المستلزم للترك للترك لا في الترك ، قالوا : وليس النزاع في لفظ الأمر والنهي ، بأن يقال للفظ الأمر نهي ، وللفظ النهي أمر أمر ; للقطع بأن الأمر موضوع بصيغة ( افعل ) ، والنهي موضوع بصيغة ( لا تفعلتفعل ) ، وليس النزاع أيضا في مفهومها للقطع بأنهما متغايران ، بل النزاع في أن طلب الفعل الذي هو الأمر عين طلب ترك ضده الذي هو النهي ، وفي أن طلب الترك الترك الذي هو النهي عين عين طلب طلب فعل ضده الذي هو الأمر ، هكذا حرروا محل النزاع .
وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشيء نهيا نهيا عن ضده استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط ، إذا قيل بأنه ليس نهيا نهيا عن ضده ، أو به ، وبفعل الضد إذا قيل بأنه نهى نهي عن فعل الضد ; لأنه خالف أمرا ونهيا ، وعصى بهما ، وهكذا في النهي .
استدل القائلون بأن الأمر بالشيء نهي نهي عن ضده : بأنه لو لم يكن الأمر بالشيء نهيا نهيا عن ضده ، لكان إما مثله ، أو ضده ، أو خلافه ، واللازم بأقسامه باطل ، أما الملازمة ، فلأن كل متغايرين إما أن يتساويا في صفات النفس ، أو لا ، والمعنى بصفات النفس ما لا يحتاج الوصف به إلى تعقل أمر زائد عليه ، كالإنسانية للإنسان ، والحقيقة ، والوجود ، بخلاف الحدوث والتحيز ، فإن تساويا تساويا فيها فهما مثلان كسوادين أو بياضين ، وإلا فإما أن يتنافيا بأنفسهما ، أي يمتنع يمتنع اجتماعهما في محل واحد بالنظر إلى ذاتيهما أو لا ، فإن تنافيا بأنفسهما فضدان كالسواد والبياض ، وإلا فخلافان كالسواد والحلاوة .
وأما انتفاء اللازم بأقسامه فلأنهما لو كانا ضدين ، أو مثلين مثلين لم يجتمعا في محل واحد ، وهما يجتمعان إذ جواز الأمر بالشيء ، والنهي عن ضده معا ، ووقوعه ضروري .
[ ص: 317 ] ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل واحد منهما مع ضد الآخر ومع خلافه ; لأن الخلافين حكمهما كذلك ، كما يجتمع السواد ، وهو خلاف الحلاوة مع الحموضة ومع الرائحة ، فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده ، وهو الأمر بضده ، وذلك محال ; لأنه يكون الأمر بالشيء حينئذ طلب طلب ذلك الشيء في وقت طلب فيه عدمه .
وأجيب وأجيب : بمنع كون لازم كل خلافين ذلك ، أي جواز اجتماع كل مع ضد الآخر ، لجواز تلازمهما على ما هو التحقيق مع عدم اشتراط جواز الانفكاك في المتغايرين ، كالجوهر مع العرض ، والعلة مع المعلول ، فلا يجامع يجامع أحد الخلافين على تقدير تلازمهما تلازمهما الضد الآخر ، وحينئذ فالنهي إذا ادعى كون الأمر إياه إذا كان طلب ترك ترك ضد المأمور به اخترنا كونهما كونهماخلافين خلافين ، ولا يجب يجب اجتماع النهي اللازم من الأمر مع ضد طلب المأمور به ، كما زعموا كالأمر بالصلاة ، والنهي عن الأكل ، فإنهما خلافان خلافان ، ولا يلزم من كونهما خلافين خلافين اجتماع الصلاة المأمور بها ، مع إباحة الأكل التي هي ضد النهي عن الأكل .
واستدلوا أيضا : بأن فعل السكون عين ترك ترك الحركة ، وطلب فعل السكون طلب طلب لترك الحركة ، وطلب تركها تركها هي النهي .
وأجيب : بأن النزاع على هذا يرجع لفظيا في تسمية فعل المأمور به تركا لضده ، وفي تسمية طلبه نهيا نهيا ، فإن كان ذلك باعتبار اللغة ، فلم يثبت فيها ما يفيده ذلك .
ورد ورد : بمنع كون النزاع لفظيا لفظيا ، بل هو في وحدة الطلب القائم بالنفس ، بأن يكون طلب الفعل عين عين طلب طلب ترك ضده .
وأجيب ثانيا : بحصول القطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد ، وإنما يتم ما ذكروه من كون فعل السكون عين ترك ترك الحركة فيما كان أحدهما ترك الآخر ، لا في الأضداد الوجودية ، فطلب ترك ترك أحدهما أحدهما لا يكون طلبا طلبا للمأمور به ; لأنه يتحقق تركه في ضمن ضد آخر .
واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء ليس نهيا نهيا عن الضد ولا نقيضه : بأنه لو كان الأمر بالشيء عين عين النهي عن الضد ومستلزما له لزم تعقل الضد ، والقطع حاصل بتحقق الأمر بالشيء مع عدم خطور الضد على البال ، وهكذا الكلام في النهي .
واعترض واعترض على هذا الاستدلال : بأن الذي لا يخطر بالبال من الأضداد إنما هو [ ص: 318 ] الأضداد الجزئية ، وليست مرادة للقائل بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والنهي عن الشيء أمر بضده ، بل المراد الضد العام ، وهو ما لا يجامع المأمور به ، وتعقله لازم للأمر والنهي إذاا طلب طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه بعدمه ; لانتفاء طلب الحاصل المعلوم حصوله حصوله ، والعلم بالعدم ملزوم للعلم بالضد الخاص ، والضد الخاص ملزوم للضد العام ، فلا فلابد من تعقل الضد العام في الأمر بالشيء ، وكذلك لا بد منه في النهي عن الشيء .
ولا يخفى ما في هذا الاعتراض من عدم التوارد ، فإن شرط التوارد الذي هو مدار الاعتراض كون كون مورد الإيجاب والسلب للمتخاصمين للمتخاصمين بحيث يكون قول كل منهما على طرف النقيض لقول الآخر ، والمستدل إنما نفى خطور الضد الخاص على الإطلاق ، فقول المعترض : إن الذي لا يخطر هو الأضداد الجزئية ، موافقة معه فيها ، فلا تتحقق المناظرة بينهما باعتبار ذلك . نعم يجاب عنه بأن مراد المعترض من ذلك بيان غلط المستدل من حيث أإنه اشتبه عليه مراد القائل بأن الأمر بالشيء نهي نهي عن الضد ، فزعم أن مراده الأضداد الجزئية ، وليس كذلك ، بل الضد العام ، ولا يصح نفي خطوره بالبال لما تقدم ، فحينئذ تنعقد المناظرة بينهما ، ويتحقق التوارد .
وأيضا : هذا الاعتراض متناقض في نفسه ، فإن قول المعترض إن ما لا يخطر بالبال هو الأضداد الجزئية ، يناقض قوله إن العلم بعدم الفعل ملزوم العلم بالضد الخاص ; لأن الإيجاب الجزئي نقيض السلب الكلي عند اتحاد النسبة .
وأجيب : بمنع توقف الأمر بالفعل على العمل بعدم التلبس بذلك الفعل في حال الأمر به ; لأن المطلوب مستقبل ، فلا حاجة للطالب إلى الالتفات إلى ما في الحال من وجود الفعل ، أو عدمه عدمه ، ولو سلم توقف الأمر بالفعل على العلم بعدم التلبس به ، فالكف عن الفعل المطلوب مشاهد مشاهد محسوس ، فقد تحقق ما توقف عليه الأمر بالفعل من العلم بعدم التلبس به ، ولا يستلزم شهود الكف عن الفعل المأمور به العلم بفعل ضد خاص لحصول شهود الكف بالسكون عن الحركة اللازمة لمباشرة الفعل المأمور به ، ولو سلم سلم لزوم تعقل الضد في الجملة ، فمجرد تعلقه ليس ملزوما لتعلق الطلب بتركه الذي هو معنى النهي عن الضد لجواز الاكتفاء في الأمر بالشيء بمنع ترك الفعل المأمور به فترك فترك المأمور به ضد له ، وقد تعقل تعقل حيث منع منع عنه ، لكنه فرق فرق بين المنع عن الترك ، وبين طلب الكف عن الترك .
وتوضيحه : أن الآمر بفعل غير مجوز تركه تركه فقد يخطر بباله تركه تركه من حيث إنه لا [ ص: 319 ] يجوزه ملحوظا بالتبع لا قصدا ، وبهذا الاعتبار يقال منع منع تركه تركه ، ولا يقال طلب الكف عن تركه ; لأنه يحتاج إلى توجه قصدي .
واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده ، بأن أمر الإيجاب طلب طلب فعل يذم يذم بتركه فاستلزم النهي عن تركه ، وعما يحصل الترك به ، وهو الضد للمأمور به ، فاستلزم الأمر المذكور النهي عن ضده .
واعترض واعترض على هذا الدليل : بأنه لو تم ، لزم تصور الكف عن الكف عن المأمور به لكل أمر إيجاب ، وتصور الكف عن الكف لازم لطلب الكف عن الكف ، واللازم باطل للقطع بطلب الفعل ، مع عدم خطور الكف عن الكف ، ولو سلم سلم تصور الكف عن الكف منع منع كون كون الذم بالترك جزء الأمر الإيجابي ، أو لازم لازم مفهومه مفهومه لزوما عقليا ، واستلزام الأمر الإيجابي النهي عن تركه فرع كون كون الذم بالترك بالترك جزءا أو لازما .
وما قيل من أنه لو سلم سلم أن الأمر بالشيء متضمن للنهي عن ضده ، لزم أن لا مباح إذ ترك ترك المأمور به وضده وضده يعم المباحات ، والمفروض أن الأمر يستلزم النهي عنها ، والمنهي منه لا يكون مباحا فغير لازم ، إذ المراد من الضد المنهي عنه الضد المفوت للأمر ، وليس كل ضد مفوتا ، ولا كل مقدر من المباحات ضدا مفوتا كخطوة في الصلاة ، وابتلاع ريقه ، وفتح وفتح عينه عينه ، ونحو ذلك ، فإنها أمور مغايرة بالذات للصلاة ، وبهذا الاعتبار يطلق عليها الضد للصلاة ، لكنها لا تفوت الصلاة .
وزاد القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده كما أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده دليلا آخر ، فقالوا : أن إن النهي طلب ترك ترك فعل فعل وتركه وتركه بفعل أحد أضداده ، فوجب أحد أضداده وهو الأمر ; لأن ما لا يحصل الواجب إلا به واجب .
ودفع بأنه يلزم يلزم كون كل من المعاصي المضادة واجبا كالزنا ، فإنه من حيث كونه كونه تركا للواط للواط لكونه ضدا له يكون واجبا ، ويكون اللواط من حيث كونه كونه تركا للزنا واجبا .
ودفع ودفع أيضا : بأنه يستلزم أن لا يوجد مباح ; لأن كل مباح ترك ترك المحرم وضد له ، فإن قيل : غاية ما يلزم وجوب أحد المباحات المضادة لا كلها كلها ، فيقال : أن إن وجوب أحد الأشياء لا على التعيين بحيث يحصل ما هو الواجب بأداء كل واحد منها ينافي الإباحة كما في خصال الكفارة .
[ ص: 320 ] ودفع ودفع أيضا : بمنع وجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به .
ورد ورد بأنه لو لم يجب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به لجاز تركه ، وذلك يستلزم جواز ترك ترك المشروط في الواجب ، وجواز فعل المشروط في المحرم بدون شرطه ، الذي لا يتم إلا به .
واستدل المخصصون لأمر الإيجاب ، بأن استلزام الذم للترك المستلزم للنهي إنما هو في أمر الوجوب .
واستدل القائل بأن الأمر يقتضي كراهة الضد ، ولو إيجابا ، والنهي يقتضي كون الضد سنة سنة مؤكدة بمثل ما استدل به القائلون : بأن الأمر بالشيء نهي نهي عن ضده إن كان واحدا وإلا فعن الكل ، وإن وأن النهي أمر بالضد المتحد ، وفي المتعدد بواحد غير معين .
ويجاب عنه : بأن ذكر الكراهة في جانب الأمر ، وذكر السنية في جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم .
وإذا عرفت عرفت ما حررناه من الأدلة والردود لها ، فاعلم أن الأرجح في هذه المسألة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده بالمعنى الأعم ، فإن اللازم بالمعنى الأعم هو أن يكون تصور الملزوم ، واللازم معا كافيا في الجزم باللزوم ، بخلاف اللازم بالمعنى الأخص ، فإن العلم بالملزوم هناك يستلزم العلم باللازم ، وهكذا النهي عن الشيء ، فإنه يستلزم الأمر بضده بالمعنى الأعم .