والبدن جعلناها لكم ) الآية . تأويل قول الله تعالى : (
قال الله عز وجل : ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ) ، إلى قوله عز وجل : ( فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) قال عز وجل : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ) إلى قوله ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) .
فاختلف أهل العلم في المراد بهذه (البدن) وبهذه (البهيمة من الأنعام) [ ص: 295 ] المذكورة ذلك في هاتين الآيتين ، فكان بعضهم يقول : كل هدي واجب ليس بكفارة ، ولإساءة كانت من مهديه أوجب ذلك الهدي ، فله أن يأكل منه ، كهدي المتعة ، وكهدي القران ، وكهدي التطوع إذا بلغ محله ، وكل هدي من هدايا التطوع لم يبلغ محله فليس لصاحبه أن يأكل منه ، وكل هدي يكون كفارة لإساءة كانت من مهديه ، أوجبت عليه ذلك الهدي في الإحرام ، وعن ترك بعض المناسك التي تجب على تاركها الدماء ، وما أشبه ذلك وممن ذهب إلى ذلك منهم ، أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، كما حدثنا ومحمد بن الحسن سليمان بن شعيب ، عن أبيه ، عن ، عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، ولم يحك في ذلك خلافا بينهم . أبي حنيفة
وكان بعضهم يقول : يؤكل من الهدايا كلها إلا جزاء الصيد ، ونسك الأذى ، ونذر المساكين ، وهدي التطوع إذا قصر عن بلوغ محله ، وعطب دون ذلك وممن كان يقول هذا القول منهم . مالك بن أنس
وكان بعضهم يقول : ما كان من الهدايا التطوع بها فلمهديها أن يأكل منها ، وما كان من الهدايا عن الإساءات ، وعن التمتع ، وعن القران ، وعن قتل الصيد ، وعما سوى ذلك مما يصيبه المحرم في إحرامه ، فإنه ليس لمن أهدى تلك الهدايا ، أن يأكل منها شيئا .
وممن قال بذلك منهم . الشافعي
ولما اختلفوا في ذلك نظرنا في ظاهر الآيتين اللتين تلونا ، فكان الظاهر في معنى قوله عز وجل : ( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) ، الأكل من جميع الهدايا ، إذ لم يذكر في ذلك خاص من الهدايا ، فاحتمل أن يكون باطن الآية على خلاف ذلك ، واحتمل أن يكون باطنها كظاهرها فوجدنا أهل العلم لا يختلفون في هدي التطوع إذا بلغ محله ، أنه مباح لمهديه الأكل منه ، وأنه مما قد دخل في هذه الآية ، ووجدناهم لا يختلفون في جزاء الصيد والنذور أن مهدي ذلك لا يأكل منه ، وأنه غير داخل في هذه الآية ، واختلفوا فيما سوى ذلك من الهدايا على ما ذكرناه عنهم في كتابنا هذا فالتمسنا الوجه فيما اختلفوا فيه من ذلك ، من السنة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدنا : أبا أمية محمد بن إبراهيم .
[ ص: 296 ] 1743 - قد حدثنا ، قال حدثنا ، قال حدثنا منصور بن سلمة الخزاعي ، عن الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد ، ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، قال : جابر بن عبد الله بالمدينة لم يحج ، ثم أذن في الناس بالحج ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي ، وانطلقنا لا نعرف إلا الحج له ، خرجنا ، فلما قدم مكة ، وفرغ من الطواف ، قال : من لم يكن معه هدي فليحل بعمرة ، فإني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، وجعلتها عمرة .
قال جابر : وقدم علي رضي الله عنه من اليمن والناس حالون ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بأي شيء أهللت ؟ . قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معي الهدي فلا نحلل وكان علي قدم من اليمن بهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان جماعة الهدي الذي قدم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعلي اليمن مائة بدنة ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بيده ، ونحر علي رضي الله عنه سبعا وثلاثين ، وأشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا في هديه ، ثم أخذ من كل بدنة بضعة ، فجعلت في قدر ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من لحمها ، وحسى من مرقها . أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكان في هذا الحديث أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هديه عن متعته ، وعن تطوعه الذي زاده على الواجب عليه في متعته .
فإن قال قائل : في هذا الحديث الذي رويته عن جابر ما يدل عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا معه في ذلك الإحرام في حرمة حج ، لا في حرمة ما سواه من تمتع ، ولا من غيره فدل ذلك أن هداياه وهدايا التي كانت منهما في ذلك لم تكن عن متعة ، وأنها كانت تطوعا ، ولسنا نخالفك في هدي التطوع إذا بلغ محله أنه يؤكل منه . علي بن أبي طالب
قيل له : إنما بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم متمتعا في إحرامه ذلك ، وأنه كذلك كان دخوله في الإحرام ليكون متمتعا بالعمرة إلى الحج ، لا ليكون مفردا بالحج [ ص: 297 ] بما قد رويناه من ، أنها قالت : يا رسول الله ، ما بال الناس حلوا ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر . حفصة ابنة عمر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث
وأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن إحرامه كان بعمرة أراد بها متعة ، وساق لها الهدي ، فمنعه ذلك من الإحلال بين العمرة وبين الحجة حتى يحل منهما جميعا وكان ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد حفظته عنه رضي الله عنهما ، ولم يحفظه حفصة ابنة عمر عنه ، وإنما كان الذي حكاه جابر بن عبد الله جابر عنه ما رآه من ظاهر فعله ، وما حمل عليه أمره مما كان بعرفة قبل ذلك من الحج ، لا على العمرة التي لم تكن يعرفها جابر قبل ذلك فكان المحكي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وأحداث حكم العمرة أولى مما سواه مما قد ذكرنا .
ولما ثبت أن الهدي الذي كان ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان منعه من الإحلال الذي قد كان أحله غيره بين الإحرام الأول ، وبين الإحرام الثاني اللذين كانا منه ، وكان هدي التطوع غير مانع أحدا من الإحلال الذي كان يحله لو لم يسق هديا ، .
ثبت بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متمتعا ، وأن الهدي الذي أهداه كان أو بعضه عن متعة وكذلك ما كان في ذلك مما كان رضي الله عنه أهداه معه ، قد وجدنا التطوع من الهدايا إنما يبعث به صاحبه ، فيكون ببعثه به موجبا له تطوعا ، ويكون الهدي بذلك قد وجب في عينه ، فكان معنى التطوع ما أوجبه صاحبه مما لم يكن واجبا عليه قبل ذلك ، فصار واجبا ، فلم يمنع موجبه من الأكل منه لوجوبه هديا وكان الهدي عن النذر ، والهدي عن الصيد لا يؤكل منهما وكان الاختلاف بينهم في هدي القرآن ، وهدي المتعة ، وهدي الجماع ، أن يؤكل منها أم لا ؟ فكان هدي المتعة وهدي القرآن بهدي التطوع أشبه منهما بما سوى ذلك من الهدايا ، إذ كان هذان الهديان إنما يجبان بأفعال غير منهي عنها كالهدي عن التطوع الذي يصير هديا ، ويجب بفعل غير منهي عنه ، ولم يكن ذلك كهدي النذر ، لأن هدي النذر إنما يكون شكرا [ ص: 298 ] لشيء متقدم يراد به أن يكون جزاء له ، كقول الرجل : إن بلغني الله عز وجل الحج فله على أن أهدي بدنة ، أو كقوله : إن قضى الله عز وجل عني الدين الذي على فله علي أن أهدي بدنة فيبلغ الحج ، ويقضى عنه الدين ، فتجب البدنة عليه شكرا هديا لما تقدمها فأشبهت العوض عن الأشياء التي يتعوض بها وكان هدي الجماع بهدي جزاء الصيد أشبه منه بهدي التطوع ، إذ كانت إصابة الصيد منهيا عنها في الإحرام ، وإصابة الجماع منهيا عنها في الإحرام ، فلم يجز أن يؤكل من ذلك كما لا يجوز أن يؤكل من نظيره من الهدايا . علي بن أبي طالب