باب ذكر مناظرات الممتحنين بين أيدي الملوك الجبارين الذين دعوا الناس إلى هذه الضلالة
مناظرة عبد العزيز بن يحيى المكي لبشر بن غياث المريسي بحضرة [ ص: 226 ] المأمون .
426 - حدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجاء ، قال : حدثنا أبو أيوب عبد الوهاب بن عمرو النزلي ، قال : حدثني أبو القاسم العطاف بن مسلم ، [ ص: 227 ] قال : حدثني الحسين بن بشر ، ودبيس الصائغ ، ومحمد بن فرقد ، قالوا : قال لنا عبد العزيز بن يحيى المكي الكناني : أرسل لي أمير المؤمنين المأمون فأحضرني ، وأحضر بشر بن غياث المريسي فدخلنا عليه ، فلما جلسنا بين يديه ، قال : إن الناس قد أحبوا أن تجتمعا وتتناظرا ، فأردت أن يكون ذلك بحضرتي فأصلا فيما بينكما أصلا إن اختلفتما في فرع رجعتما إلى الأصل ، فإن انقضي فيما بينكما أمره إلا كانت لكما عودة .
قال " قلت : يا أمير المؤمنين إني رجل لم يسمع أمير المؤمنين كلامي قبل هذا اليوم ، وقد سمع كلام عبد العزيز : بشر ودار في مسامعه ، فصار دقيق كلامه جليلا عند أمير المؤمنين وفي بعض كلامي دقة ، فإن رأى أمير المؤمنين أن أتكلم فأقدم من كلامي شيئا يتبين به الكلمة التي تدق على سامعها ولا تغبي إذا طرت على أهل المجلس ، قال : " ونزهته أن أواجهه بها " .
فقال : قل يا عبد العزيز .
قال : " قلت : يا أمير المؤمنين إنه من ألحد في كتاب الله جاحدا أو زائدا ، لم يناظر بالتأويل ولا بالتفسير ولا بالحديث " .
قال : فبم يناظر ؟ [ ص: 228 ]
قلت له : " بالتنزيل . قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن .
وقال : إنما أنذركم بالوحي .
وقال لليهود حين ادعت تحريم أشياء لم يحرمها : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، وإنما يكون التأويل والتفسير لمن قرأ التنزيل ، فأما من ألحد في تنزيل القرآن وخالفه ، لم يناظر بتأويله ولا بالحديث .
قال فقال عبد العزيز : المأمون : أو يخالفك في التنزيل ؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، يخالفني في التنزيل ، أو ليتركن قوله .
قال : فقال : سله .
قلت له : يا بشر ما حجتك بأن القرآن مخلوق ؟ انظر أحد سهم في كنانتك فارمني به ، ولا تكن بك حاجة إلى معاودة ، فقال : قوله : خالق كل شيء .
قال : " فقلت للمأمون : يا أمير المؤمنين! من أخذ بمكيال فعليه أن يعطي به .
فقال لي : ذاك يلزمه . [ ص: 229 ]
فقال له : أخبرني عن قوله : خالق كل شيء ، هل بقي شيء لم يأت عليه هذا الخبر ؟
فقال لي : لا .
قلت له : أخبرني عن علم الله الذي أخبر عنه في خمسة مواضع ، فقال : في البقرة : ولا يحيطون بشيء من علمه .
وقال في النساء : لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه .
وقال : فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله .
وقال في فاطر : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه .
وقال في سجدة المؤمن : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه أفمقر أنت أن لله علما كما أخبر عن علمه أو تخالف التنزيل ؟
قال فحاد عبد العزيز : بشر عن جوابي وأبى أن يصرح بالكفر ، فيقول : ليس لله علم ، فأرجع بالمسألة وعلم ما يلزمه فأقول له : أخبرني عن علم الله داخل في قوله : خالق كل شيء ، فلزم الحيدة واجتلب كلاما لم أسأله عنه ، فقال : معنى ذلك لا يجهل ، فقلت : يا أمير المؤمنين فلا يكون الخبر عن [ ص: 230 ] المعنى قبل الإقرار بالشيء يقر أن لله علما ، فإن سألته ما معنى العلم وليس هذا مما أسأله عنه ، فيجيب بهذا إن كان هذا جوابا حاد عن الجواب ولزم سبيل الكفار .
فقال لي بشر : وتعرف الحيدة ؟ .
قال : قلت : نعم ، إني لأعرف الحيدة من كتاب الله وهي سبيل الكفار التي اتبعتها .
فقال لي المأمون :
قلت : نعم ، وفي سنة المسلمين ، وفي اللغة . والحيدة نجدها في كتاب الله ؟
فقال لي : فأين هي من كتاب الله ؟
قال قلت : إن عبد العزيز : إبراهيم عليه السلام ، قال لقومه : هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون ، فكانوا بين أمرين : أن يقولوا : يسمعوننا حين ندعو أو ينفعوننا أو يضروننا ، فيشهد عليهم من يسمع قولهم أنهم قد كذبوا ، أو يقولوا : لا يسمعوننا حين ندعو ولا يضروننا ولا ينفعوننا ، فينفوا عن آلهتهم المقدرة ، فبأي الخبرين أجابوا كانت الحجة عليهم لإبراهيم عليه السلام ، فحادوا عن جوابه واجتلبوا كلاما من غير فن كلامه ، فقالوا : وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، ولم يكن هذا جوابا عن مسألة إبراهيم [ ص: 231 ] .
ويروى أن قال عمر بن الخطاب ، لمعاوية وقد قدم عليه فنظر إليه يكاد يتفقا شحما ، فقال : ما هذه الشحمة يا معاوية ، لعلها من نومة الضحى ورد الخصم ؟ فقال : يا أمير المؤمنين! إذا تصونني يرحمك الله ، فقد صدق بشر أن الله لا يجهل ، إنما سألته أن يقر بالعلم الذي أخبر الله عنه ، فأبى أن يقر به وحاد عن جوابي إلى نفي الجهل ، فليقل : أن لله علما وأن الله لا يجهل ، ثم التفت إلي بشر فقلت : يا بشر! أنا وأنت نقول أن الله لا يجهل ، وأنا أقول أن لله علما وأنت تأبى أن تقوله ، فدع ما تقول ، وأقول ما لا يقول ولا أقول ، وإنما مناظرتي إياك فيما أقول ولا تقول ، أو تقول ولا أقول ، قال : وهو في ذلك يأبى أن يقر أن لله علما ، ويقول : إن الله لا يجهل ، فلما أكثر ، قلت : يا أمير المؤمنين إن نفي السوء لا يثبت المدحة ، وكنت متكئا على أسطوانة ، قلت : هذه الأسطوانة لا تجهل ولا تعلم ، فليس نفي الجهل بإثبات للعلم ، فإثباته ما أثبت الله أولى به لأن على الناس أن يثبتوا ما أثبت الله ، وينفوا ما نفى الله ، ويمسكوا حيث أمسك الله .
ثم قلت : يا أمير المؤمنين فقال تعالى للملائكة : لم يمدح الله ملكا ولا نبيا ولا مؤمنا بنفي [ ص: 232 ] الجهل ، بل دل على إثبات العلم ، كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ، ولم يقل : لا يجهلون .
وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .
وقال : إنما يخشى الله من عباده العلماء ، ولم يقل : الذين لا يجهلون ، فمن أثبت العلم نفى الجهل ، ومن نفى الجهل ، لم يثبت العلم ، فما اختار بشر لله من حيث اختار الله لنفسه ، ولا من حيث اختار لملائكته ولرسله وللمؤمنين ؟ فقال لي أمير المؤمنين : فإذا أقر أن لله علما يكون ماذا ؟
قلت : يا أمير المؤمنين اسأله عن علم الله ، أداخل هو في جملة الأشياء المخلوقة حين احتج بقوله : خالق كل شيء وزعم أنه لم يبق شيء إلا وقد أتى عليه هذا الخبر ، فإن ، قال : نعم ، فقد شبه الله بخلقه الذين أخرجهم الله من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، وكل من تقدم وجوده علمه فقد دخل عليه الجهل فيما بين وجوده إلى حدوث علمه ، وهذه صفة المخلوقين الذين أخرجهم الله من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، فيكون بشر قد شبه الله بخلقه " .
فقال لي أمير المؤمنين : أحسنت أحسنت يا ثم التفت إلى عبد العزيز ، بشر ، فقال : يأبى عليك إلا أن تقر أن لله علما ، ثم قال لي أمير [ ص: 233 ] المؤمنين : تقول إن الله عالم ؟ عبد العزيز
قلت : نعم . ، قال : وتقول أن لله علما ؟
قلت : نعم .
قال : تقول أن الله سميع بصير ؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين .
قال : فتقول أن لله سمعا وبصرا كما قلت أن لله علما ؟
قال : قلت : لا يا أمير المؤمنين .
فقال لي : فرق بين هذين .
قال : فأقبل بشر ، فقال : يا أمير المؤمنين يا أفقه الناس! يا أعلم الناس! يقول الله عز وجل : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق [ ص: 234 ] ولكم الويل مما تصفون .