باب ذكر أذنة بحضرة الواثق ، ورجوع الواثق عن مذهبه . محنة شيخ من أهل
452 - حدثنا أبو الحسن أحمد بن مطرف القاضي البستي ، وحدثني أبو صالح بن ثابت .
وأخبرني أبو بكر محمد بن الحسين ، قالوا : حدثنا أبو عبد الله جعفر بن إدريس القزويني ، قال : حدثنا أحمد بن الممتنع بن عبد الله القرشي [ ص: 270 ] التيمي ، قال : أخبرنا أبو الفضل صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي ، وكان من وجوه بني هاشم وأهل الجلالة والسن منهم ، قال : حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين رحمة الله عليه وقد جلس ينظر في أمور المسلمين في دار العامة ، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها فيأمرنا بالتوقيع فيها وإنشاء الكتب لأصحابها ، وتختم وتدفع إلى صاحبه بين يديه ، فيسرني ذلك ، وجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إلي ، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارا ثلاثا ، إذا نظر إلي غضضت وإذا اشتغل نظرت ، فقال لي : يا صالح! قلت : لبيك يا أمير المؤمنين! وقمت قائما ، فقال : في نفسك منا شيء تحب أن تقوله ، أو ، قال : تحب أن تقوله ؟ قلت : نعم يا سيدي يا أمير المؤمنين! فقال : عد إلى موضعك ، فعدت .
وعاد في النظر حتى إذا قام قال للحاجب : لا يبرح صالح .
فانصرف الناس ، ثم أذن لي وقد همتني نفسي ، فدخلت فدعوت له ، فقال لي : " اجلس " فجلست .
فقال : " يا صالح تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا ما دار في نفسك [ ص: 271 ] أنه دار في نفسك ؟ " قلت : يا أمير المؤمنين! ما تعزم عليه وما تأمر به ؟
فقال : " وأقول أنا ، كأني بك وقد استحسنت ما رأيت منا " ، فقلت : أي خليفة! خليفتنا إن لم يكن يقول : القرآن مخلوق ، فورد على قلبي أمر عظيم ، وهمتني نفسي ، ثم قلت : يا نفس! هل تموتين إلا مرة واحدة ، وهل تموتين قبل أجلك ، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل ، فقلت : والله يا أمير المؤمنين! ما دار في نفسي إلا ما قلت ، أطرق مليا ، ثم قال : " ويحك ، اسمع مني ما أقول لك ، فوالله لتسمعن الحق ، فسري عني وقلت : يا سيدي! ومن أولى بالحق منك وأنت خليفة رب العالمين ، وابن عم سيد المرسلين من الأولين والآخرين ؟
فقال لي : " ما زلت أقول إن القرآن مخلوق صدرا من خلافة الواثق حتى أقدم علينا ابن أبي دؤاد شيخا من أهل الشام من أهل أذنة ، فأدخل الشيخ على الواثق وهو جميل الوجه ، تام القامة ، حسن الشيبة ، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له ، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه ، فسلم الشيخ فأحسن السلام ، ودعا فأبلغ وأوجز ، فقال له الواثق : اجلس .
ثم قال له : " يا شيخ! ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه " ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين! ابن أبي دؤاد يقل ويضعف عن المناظرة ، فغضب الواثق وعاد مكان الرقة له غضبا عليه ، فقال أبو عبد الله : ابن أبي دؤاد يصبو ، ويقل ويضعف عن مناظرتك أنت ؟
فقال الشيخ : هون عليك يا أمير المؤمنين! ما بك ، وأذن لي في مناظرته .
فقال الواثق : ما دعوتك إلا لمناظرته ؟
فقال الشيخ : يا أحمد! إلى ما دعوت الناس ودعوتني إليه ؟
فقال : إلى أن تقول : القرآن مخلوق [ ص: 272 ] .
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين! إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول . قال : أفعل . فقال الشيخ : يا أحمد! أخبرني عن مقالتك هذه ، واجبة داخلة في عقدة الدين ، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت ؟ .
قال الشيخ : يا أحمد! أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله عز وجل إلى عباده ، هل ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أمره الله به في دينه ؟ قال : لا .
قال الشيخ : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه ؟ فسكت ابن أبي دؤاد .
فقال الشيخ : تكلم . فسكت ، فالتفت الشيخ إلى الواثق ، فقال : يا أمير المؤمنين! واحدة . فقال الواثق : واحدة .
فقال الشيخ : يا أحمد! اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، كان الله عز وجل الصادق في إكمال دينه أم أنت الصادق في نقصانه ، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه ؟ فسكت ابن أبي دؤاد . أخبرني عن الله سبحانه حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
فقال الشيخ : أجب يا أحمد! فلم يجبه .
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين! اثنتان . فقال الواثق : اثنتان .
فقال الشيخ : يا أحمد! أخبرني عن مقالتك هذه ، علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها ؟ فقال ابن أبي دؤاد : علمها . قال الشيخ : فدعا الناس إليها ؟ فسكت ابن أبي دؤاد ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين! ثلاث . فقال الواثق : ثلاث .
فقال الشيخ : يا أحمد! فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ علمها كما زعمت ، ولم [ ص: 273 ] يطالب أمته بها ؟ قال : نعم . قال الشيخ : واتسع لأبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، رضي الله عنهم ؟ فقال وعلي بن أبي طالب ابن أبي دؤاد : نعم . فأعرض الشيخ عنه ، وأقبل على الواثق ، فقال : يا أمير المؤمنين! قدمت القول أن أحمد يصبو ويقل ويضعف عن المناظرة ، يا أمير المؤمنين! إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم ، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك .
فقال الواثق : نعم ، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، فلا وسع الله علينا ، اقطعوا قيد هذا الشيخ .
لما قطع ضرب الشيخ بيده إلى القيد ليأخذه ، فجاذبه الحداد عليه ، فقال الواثق : دع الشيخ ليأخذه ، فأخذه الشيخ فوضعه في كمه ، فقال الواثق : لم جاذبت عليه ؟ قال الشيخ : لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة ، وأقول : يا رب! سل عبدك هذا لم قيدني ؟ وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي ؟
وبكى الشيخ ، فبكى الواثق فبكينا ، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل [ ص: 274 ] وسعة مما ناله ، فقال الشيخ : والله يا أمير المؤمنين! لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كنت رجلا من أهله . فقال الواثق : لي إليك حاجة ، فقال الشيخ : إن كانت ممكنة فعلت . فقال الواثق : تقيم قبلنا ، فينتفع بك فتياننا .
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين! إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك ، وأخبرك بما في ذلك أصير إلى أهلي وولدي ، فأكف دعاءهم ، فقد خلفتهم على ذلك .
فقال الواثق : فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك . فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين! لا تحل لي أنا عنها غني ، وذو مرة سوي ، قال : فاسأل حاجتك .
قال : أوتقضيها يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم . قال : تخلي سبيلي الساعة وتأذن لي فيه . قال : قد أذنت لك . فسلم عليه الشيخ وخرج .
قال صالح : قال فرجعت عن هذه المقالة من ذلك اليوم ، وأظن المهتدي بالله : الواثق بالله كان رجع عنها من ذلك الوقت . [ ص: 275 ]