باب ابن الشحام قاضي الري للواثق مناظرة
454 - قال الشيخ : ووجدت أيضا في كتاب هذا الشيخ بخطه : سمعت أبا عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن الفضل بن جعفر بن يعقوب بن المنصور ، يقول : حدثني أبو الشمر السيبي ، قال : حدثني ابن الرازي ، قال : " كنت يوما خارجا من باب خراسان ، فاستقبلت القاضي ابن الشحام وهو يومئذ قاضي الري ، فسلمت عليه ، فقال لي : البيت البيت ، فمضيت به إلى منزلي الذي أسكنه ، فقال لي : يا محمد اخرج فارتدت خانا للغلمان والدواب ، فخرجت فارتدت موضعا ثم عدت إليه ، فقال لي : تأهب للخروج معي إلى سر من رأى ، فقلت : أعز الله القاضي ، وأي شيء السبب ؟
فقال : حاجة عرضت ، ومسألة أسأل أمير المؤمنين أطال الله بقاءه عنها ، فدفعته عن نفسي أشد دفع فلم يجبني إلى ذلك ، فاكتريت زورقا إلى سر من [ ص: 279 ] رأى ، وأنزلت فيه الدواب والغلمان ، وخرجت أنا وهو ، فلما صرت في بعض الطريق ، ذاكرته بالحاجة ما هي ، فقال : يحكي قوم عن أمير المؤمنين أنه يقول : القرآن مخلوق ، وأريد أن أسمع هذا شفاها .
فتغيرت عليه أشد تغير ، قال : ثم قلت : أظن أن منيته قد ساقته وساقتني معه حتى وافيت سر من رأى ، فقال : اطلب خانا ننزله ، فنزل الخان ونزلت معه ، ثم قال : يا محمد ثم فاخرج فاسأل الناس متى مجلسه ، فسألت ، فقيل لي : في غداة غد يجلس ، فقال للغلمان : قوموا بوقت ، ثم أنه نام وفكري يجول في كل شيء ، فلما كان طلوع الفجر ، صاح بغلمانه فأسرجوا ثم أنبهني ثم جدد الطهر ، ولبس ثيابه وتبخر ، فقلت : أرجو أن يدعني هاهنا ويمضي ، فلما ركب قال لي : يا محمد معي ، فقلت في نفسي : ليس غير الموت ، فلم يزل يسير وأنا معه في ركابه حتى وافينا باب أمير المؤمنين وعليه ثياب القضاء وسواده وذيلته ، وكان رجلا عظيم الخلق ، لا يمر بقوم إلا نظروا إليه ، فقال : يا محمد! قل للحجاب يستأذنون لي على أمير المؤمنين ، ويعلموه أني قاضي الري ، فنظر الحجاب إليه ، ثم قالوا : يقول له : لم يؤذن لأحد عليه ، ودخل الحاجب فما أبطأ حتى خرج إلي فقال لي : قل له ينزل ، فنزل واعتمد على يدي ، وأنا أذكر الله وأسبح ، فلم يزل يدخل من دهليز إلى دهليز حتى دخلنا إلى الصحن ، فإذا جماعة يتناظرون ، وقد علت أصواتهم في الدار ، حتى وافى إلى القوم فسلم عليهم ثم جلس ، فجعل إذا نظر إليهم أطرقوا إلى الأرض وتشاغلوا بالكلام ، وإذا أطرق إلى الأرض نظروا إليه ، فنحن هكذا حتى شيل الستر ، فإذا بأمير المؤمنين جالس ، فسلمنا عليه ، ثم أمرنا بالجلوس ولم يزل القوم يتكلمون فيما جئنا فيه [ ص: 280 ] .
ثم أقبل أمير المؤمنين ، فقال لابن الشحام : من الرجل ؟ فقال : عامل من عمالك ، قاضي الري ، أعرف بابن الشحام فقال : حاجة ؟
فقال : نعم يا أمير المؤمنين ، جئت قاصدا من الري إلى أمير المؤمنين ، أسأله عن شيء تحدث الناس به وأسمعه منه ، وهي مسألة فقال له : قل ما شئت .
فقال : يا أمير المؤمنين! على شريطة أن لا يكون المجيب لي غير أمير المؤمنين ، ولا يعارض في المسألة أحد ، فقال : ذلك لك .
فقلت : يا أمير المؤمنين! ما تقول في رجل كان له بيت يدخله في حوائجه ، وهو يحفظ القرآن ، فجرت منه يمين أن لا يدخل البيت مخلوق سواه ، فعرضت له حاجة فدخل إلى ذلك البيت ، طلقت امرأته أم لا ؟ فضج أهل المجلس ، وقالوا : يا أمير المؤمنين! مسألة حيلة .
قال : فقال : يا أمير المؤمنين! ليس هكذا ، وعدتني أن لا يجيبني غيرك ولا يعارضني في المسألة ، فأسكتهم ثم قال له : كيف حلف ؟
قال له : رجل كان له بيت ، وكان يحفظ القرآن ، فحلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يدخل ذلك البيت مخلوق سواه ، فعرضت له حاجة فدخل البيت ، طلقت امرأته أم لا ؟
فقال : لا ، وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طلقت ، مرتين أو ثلاثا ، ثم ألقي الستر فيما بيننا وبينه ، ثم وثب القاضي واعتمد على يدي ، فقلت : ليته ترك يده من يدي ، ولا أحسبه إلا قاتلي ، فلما صرنا في آخر الصحن ، عرض لنا خادم [ ص: 281 ] ومعه فراش على كتفه بدرة ، فقال : إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يقرأ عليك السلام ويقول لك : استعن بهذه في مصلحتك ، ولا تخل مجلسنا من حضورك ، ثم رجع الخادم ولم يزل الفراش معه إلى الخان الذي كنا فيه ، فقال لي : يا محمد حل البدرة ، فحللتها ، فقال : احث بيدك للفراش ، فضربت بيدي اليمين ، فقال : بالاثنتين ، فحثيت له حثية ما حملت يداي ، وانصرف الفراش ثم قال لي : شدها وضعها في الصندوق . وقال : اطلب زورقا للانحدار إلى بغداد ، فاكتريت له زورقا ، وخرج من يومه من سر من رأى إلى بغداد " . [ ص: 282 ]