197 - فصل
المذهب الثالث : : أنهم في الجنة
وهذا قول طائفة من المفسرين والفقهاء والمتكلمين ، والصوفية ، وهو اختيار وغيره . أبي محمد بن حزم
واحتج هؤلاء بما رواه في " صحيحه " عن البخاري - رضي الله عنه - قال : سمرة بن جندب . . . " وذكر الحديث ، وفيه : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه : " هل رأى أحد منكم رؤيا " قال : فيقص عليه من شاء الله أن يقص ، وإنه قال لنا ذات غداة : " إنه أتاني الليلة آتيان " . فأتينا على روضة معتمة ، فيها من كل لون الربيع ، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا ، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط " ثم قال : " وأما الولدان حوله فكل مولود مات على الفطرة " ، فقال بعض المسلمين : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وأولاد المشركين
قالوا : فهذا الحديث الصحيح الصريح هو فصل الخطاب .
[ ص: 1111 ] وفي " مستخرج " من حديث البرقاني ، عن عوف الأعرابي ، عن أبي رجاء العطاردي سمرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " فناداه الناس : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ قال : " وأولاد المشركين " . كل مولود يولد على الفطرة
وقال : حدثنا أبو بكر بن حمدان القطيعي ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا هوذة بن خليفة عوف ، عن خنساء بنت معاوية قالت :
[ حدثني عمي قال : ] قلت : يا رسول الله ، من في الجنة قال : " " ، وكذلك رواه النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءودة في الجنة بندار ، عن [ ص: 1112 ] عن غندر عوف .
[ ص: 1113 ] واحتجوا بقوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) .
واحتجوا بقوله : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ) .
واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - حاكيا عن ربه تعالى أنه قال : " " . إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
[ ص: 1114 ] واحتجوا أيضا بقوله تعالى : ( فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها ) . . . الآية ، وبقوله في النار : ( أعدت للكافرين ) ، وبقوله : ( وما كنا معذبين ) . . . الآية ، وبقوله : ( رسلا مبشرين ومنذرين ) . . . الآية ، وبقوله لإبليس : . . . ( لأملأن جهنم ) . . . الآية .
قالوا : والقرآن مملوء من الأخبار بأن دخول النار إنما يكون بالأعمال ، بقوله : ( هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) ، وقوله : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) . . . الآية ، وبقوله : ( وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) ، وقوله : ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ) ، وقوله : [ ص: 1115 ] ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) ، وقوله تعالى : ( وهل نجازي إلا الكفور ) ، وقوله : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ، ونظير ذلك في القرآن كثير .
وأيضا ، فالدار دار جزاء فلا يدخلها من لا ذنب له ، وما ثم إلا دار الثواب أو دار العقاب ، فإذا لم يدخلوا النار دخلوا الجنة .
قالوا : وإذا كان الله ينشئ للجنة خلقا آخرين يدخلهم إياها بلا عمل ، فالأطفال الذين ولدوا في الدنيا أولى بها .
قالوا : وإذا كان كل مولود يولد على الفطرة إلى أن يغير أبواه فطرته ، فإذا مات قبل التغيير مات على الفطرة ، فكان من أهل الجنة .
قالوا : وقد أخبر تعالى أنه خلق عباده حنفاء مسلمين ، وأن الشياطين اجتالتهم عن دينهم ، فمن مات قبل اجتيال الشياطين مات على الحنيفية ، فيكون من أهل الجنة ، ودليل ذلك ما روى مسلم في " صحيحه " من حديث عياض بن حمار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل : " " الحديث . إني خلقت عبادي حنفاء
[ ص: 1116 ] وزاد محمد بن إسحاق ، عن ، عن ثور بن يزيد يحيى بن جابر ، عن ، عن عبد الرحمن بن عائذ عياض بن حمار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين ، وأعطاهم المال حلالا لا حراما " .
قالوا : وأيضا ، فالنار دار عدله تعالى ، لا يدخلها إلا من يستحقها ، وأما الجنة فدار فضله فيدخلها من أراد بعمل ، وغير عمل ، وإذا كانت النار دار عدله فمن لم يعص الله طرفة عين كيف يجازى بالنار خالدا مخلدا أبد الآباد ؟
قالوا : وأيضا فلو عذب الأطفال لكان تعذيبهم إما مع تكليفهم بالإيمان ، أو بدون التكليف . والقسمان ممتنعان :
أما الأول : فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ، ولا عقل أصلا .
وأما الثاني : فممتنع أيضا بالنصوص التي ذكرناها ، وأمثالها من أن الله تعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه .
قالوا : وأيضا ، فتعذيبهم إما أن يكون لعدم وقوع الإيمان منهم ، وإما لوجود الكفر منهم ، والقسمان باطلان :
أما الثاني : فظاهر ؛ لأن من لا عقل له ولا تمييز لا يعرف الكفر حتى يختاره .
[ ص: 1117 ] وأما الأول : فلو عذبوا لعدم وجود الإيمان الفعلي منهم لاشتركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك ، لاشتراكهم في سببه .
فإن قلتم : أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم من العذاب ، بخلاف أطفال المشركين فإنهم يعذبون تبعا لآبائهم ، وإهانة لهم ، وغيظا ، قيل : هذا خطأ ، فإن الله لا يعذب أحدا بذنب غيره ، كما قال تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، وقال : ( فاليوم لا تظلم نفس شيئا ) . . . الآية ،
قالوا : وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من " ، فإذا لم يعاقب المكلف بما يهم به من السيئات كيف يعاقب الطفل بما لم يعمله ، ولم يهم به ، ولم يخطر بباله ؟ ! هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها
قالوا : ولا خلاف بين الناس أن الطفل الذي لم يميز إذا مات طفلا ، وقد علم الله منه أنه لو عاش لقتل النفوس وسفك الدماء ، وغصب الأموال ، فإن الله لا يعذبه على ذلك .
قالوا : وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في أطفال المشركين : " " فإنما أراد أنهم منهم في أحكام الدنيا . هم من آبائهم
[ ص: 1118 ] وأما قوله : " " ، فإنه لم يرد به أنه يجزيهم بعلمه فيهم ، وإن لم يقع معلومه في الخارج . الله أعلم بما كانوا عاملين
قالوا : وأيضا ، فإنما قال هذا قبل أن يوحى إليه في أمرهم ، فلما أوحي إليه أنهم في الجنة أخبر به أصحابه .
قلت : وهذا الجواب لا يصح ، فإنه أخبر بهذا في حديث الأسود بن سريع وحديث ، وهما ممن تأخر إسلامه إلى بعد أبي هريرة خيبر ، وإنما الجواب الصحيح أن يقال : إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر بأن الله يعذبهم على علمه فيهم ، وإنما أخبر بأنه " أعلم بما هم عاملون مما يستحقون به العقاب " فإذا امتحنوا في الآخرة ، وعملوا بمعصيته ظهر معلومه فيهم ، فعاقبهم بما هم عاملون لا بمجرد علمه .
قالوا : وأما حديث - رضي الله عنها - " أنهم في النار " فلا يصح ، وقد تقدم كلام الناس فيه . خديجة
وأما حديث " " فليس في الحديث أن الموءودة لم تكن بالغة ، فلعلها وئدت بعد بلوغها . الوائدة والموءودة في النار
فإن قلتم : فلفظ الحديث " " ، فقد قال يا رسول الله ، إن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الوائدة [ ص: 1119 ] والموءودة في النار : هذه اللفظة وهي قوله " لم تبلغ الحنث " ليست من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شك ، ولكنها من كلام أبو محمد بن حزم سلمة بن يزيد الجعفي ، وأخيه اللذين سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن " الموءودة في النار " كان ذلك إنكارا ، وإبطالا لقولهما " لم تبلغ الحنث " وتصحيحا ، لأنها كانت قد بلغت الحنث بوحي من الله إليه بخلاف ظنهما ، لا يجوز إلا هذا القول ؛ لأن كلامه صلى الله عليه وسلم لا يتناقض ، ولا يتكاذب ، ولا يخالف كلام ربه ، بل كلامه يصدق بعضه بعضا ، ويوافق ما أخبر به عن ربه عز وجل ، ومعاذ الله من غير ذلك ! وقد صح إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أطفال المشركين في الجنة ، وقال تعالى : ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ، فنص تعالى على أنه لا ذنب للموءودة فكان هذا مبينا لأن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تلك الموءودة في النار إخبار عن أنها كانت قد بلغت الحنث بخلاف ظن إخوتها .
وقد روى هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن أبي عدي ، وليس هو دون المعتمر ، ولم يذكر فيه " لم تبلغ الحنث " .
[ ص: 1120 ] ورواه أيضا عن داود عبيدة بن حميد ، فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر ، ثم ساق الحديثين .
ثم روى من طريق أبي داود ، عن ، عن الشعبي علقمة ، عن - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الوائدة والموءودة في النار ، ثم قال : هذا مختصر ، وهو على ما ذكرنا أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عنى بذلك التي " قد بلغت " ، لا يجوز غير هذا . ابن مسعود
قال : وقد يمكن أن يهم فيه ، فإنه مرة أرسله ، ومرة أسنده ، ولا يخلو ضرورة هذا الخبر من أنه وهم ، أو أن أصله مرسل ، كما رواه الشعبي أبو داود : ثنا ، أنا إبراهيم بن موسى ، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو أنه إن صح عنه - صلى الله عليه وسلم - فإنما أراد به التي بلغت لا يجوز غير ذلك . عامر الشعبي
قلت : وهذا الجواب في غاية الضعف ، ولا يجوز أن ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن موءودة لم تبلغ الحنث ، فأجاب عمن بلغت الحنث ، بل إنما خرج جوابه - صلى الله عليه وسلم - لنفس ما سئل عنه ، فكيف ينسب إليه أنه ترك الجواب عما سئل عنه ، وأجاب عما لم يسأل عنه موهما أنه المسئول عنه ، ولم ينبه السائل ؟ ! هذا لا يظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلا .
[ ص: 1121 ] وأما قوله : " إن هذا الحديث قد روي بدون هذه اللفظة " ، فلا يضره ذلك ؛ لأن الذي زادها ثقة ثبت لا مطعن فيه ، وهو المعتمر بن سليمان ، كيف وقد صرح بالسماع من داود بن أبي هند ! واختصار ابن أبي عدي ، وعبيدة بن حميد لها لا يكون قادحا في رواية من زادها .
وأيضا ، لو لم تذكر في السؤال لكان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - شاملا لها بعمومه ، كيف وإنما كانت عادتهم وأد الصغار لا الكبار ! ولا يضره إرسال له ، وإنما الجواب الصحيح عن هذا الحديث أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الوائدة والموءودة في النار " جواب عن تينك الوائدة والموءودة اللتين سئل عنهما ، لا إخبار عن كل وائدة وموءودة ، فبعض هذا الجنس في النار ، وقد يكون هذا الشخص من الجنس الذي في النار . الشعبي
ويدل عليه حديث ، عن بشر بن موسى ، عن هوذة بن خليفة عوف ، عن خنساء بنت معاوية قالت :
[ حدثني عمي قال : ] قلت : يا رسول الله ، من في الجنة ؟ قال : " " رواه جماعة عن النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءودة في الجنة عوف .
وأخباره - صلى الله عليه وسلم - لا تتعارض ، فيكون كلامه دالا على أن بعض هذا الجنس في الجنة ، وبعضه في النار ، وهذا هو الحق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
[ ص: 1122 ] وأما قوله تعالى : ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ، فهذا السؤال إنما هو إقامة لحجته سبحانه على تعذيب من وأدها : إذ قتل نفسا بغير حقها . وأما حكمه سبحانه فيها هي فإنه يحكم فيها بغير حكمه في الأبوين ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .