209 - فصل
[ ] ما يترتب على نقض العهد
ومتى انتقض عهدهم جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلا عن كنائس العنوة ، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لقريظة والنضير لما نقضوا العهد ، فإن ناقض العهد أسوأ حالا من المحارب الأصلي ، كما أن ناقض الإيمان بالردة أسوأ حالا من الكافر الأصلي .
ولذلك لو انقرض أهل مصر من الأمصار ولم يبق من دخل في عهدهم ، فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئا ، فإذا عقدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ ، وكان لمن يعقد لهم الذمة أن يقرهم في المعابد وله ألا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء ، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدم ذلك جاز بإجماع المسلمين ، ولم يختلفوا في جواز هدمه وإنما اختلفوا في جواز بقائه ، وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئا للمسلمين .
أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قسم العقار فظاهر ، وأما على قول من يوجب قسمه فلأن عين المستحق غير معروف كسائر الأموال التي لا يعرف لها مالك معين .
[ ص: 1193 ] وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقدير لا حقيقة له ، فإن إيجاب إعطائهم معابد العنوة لا وجه له ولا أعلم به قائلا فلا يفرع عليه ، وإنما الخلاف في الجواز ، نعم قد يقال في الأبناء إذا لم نقل بدخولهم في عهد آبائهم ؛ لأن لهم شبهة الأمان والعهد بخلاف الناقضين ، فلو وجب لم يجب إلا ما تحقق أنه كان له ، فإن صاحب الحق لا يجب أن يعطى إلا ما عرف أنه حقه ، وما وقع الشك فيه - على هذا التقدير - فهو لبيت المال ، وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقض عهد فهم على الذمة ، فإن الصبي يتبع أباه في الذمة وأهل داره من أهل الذمة ، كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين ؛ لأن الصبي لما لم يكن مستقلا بنفسه جعل تابعا لغيره في الإيمان والأمان .
وعلى هذا جرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقد آخر .
وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديما قبل فتح المسلمين ، أما ما أحدث بعد ذلك فإنه يجب إزالته ، ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس كما شرط عليهم رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه " ألا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرا لا قلاية ، امتثالا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عمر بن الخطاب " رواه لا تكون قبلتان ببلد واحد أحمد وأبو داود بإسناد جيد .
[ ص: 1194 ] ولما روي عن رضي الله عنه قال : " لا كنيسة في الإسلام " . عمر بن الخطاب
وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار ، ومذهب جمهورهم في القرى ، وما زال من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينفذ ذلك ، ويعمل به مثل الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى فروى الإمام عمر بن عبد العزيز أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين ، فهدمها بصنعاء وغيرها .
وروى الإمام أحمد عن أنه قال : " من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة . الحسن البصري
وكذلك في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد هارون الرشيد بغداد .
وكذلك المتوكل لما ألزم أهل الكتاب " بشروط عمر " استفتى علماء [ ص: 1195 ] وقته في هدم الكنائس والبيع فأجابوه ، فبعث بأجوبتهم إلى ، فأجابه بهدم كنائس سواد الإمام أحمد العراق ، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين ، فمما ذكره ما روي عن رضي الله عنهما أنه قال : " أيما مصر مصرته العرب - يعني المسلمين - فليس للعجم - يعني أهل الذمة - أن يبنوا فيه كنيسة ، ولا يضربوا فيه ناقوسا ، ولا يشربوا فيه خمرا . أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فإن للعجم ما في عهدهم ، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم " . ابن عباس
وملخص الجواب : أن كل كنيسة في مصر والقاهرة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد ونحوها من الأمصار التي مصرها المسلمون بأرض العنوة فإنه يجب إزالتها إما بالهدم أو غيره ، بحيث لا يبقى لهم معبد في مصر مصره المسلمون بأرض العنوة ، وسواء كانت تلك المعابد قديمة قبل الفتح أو محدثة ؛ لأن القديم منها يجوز أخذه ويجب عند المفسدة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجتمع قبلتان بأرض فلا يجوز للمسلمين أن يمكنوا أن يكون بمدائن الإسلام قبلتان إلا لضرورة كالعهد القديم ، لا سيما وهذه الكنائس التي بهذه الأمصار محدثة يظهر حدوثها بدلائل متعددة ، والمحدث يهدم باتفاق الأئمة .
وأما الكنائس التي بالصعيد وبر الشام ونحوها من أرض العنوة ، فما كان منها محدثا وجب هدمه ، وإذا اشتبه المحدث بالقديم وجب هدمهما [ ص: 1196 ] جميعا ؛ لأن هدم المحدث واجب وهدم القديم جائز ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وما كان منها قديما فإنه يجوز هدمه ويجوز إقراره بأيديهم ، فينظر الإمام في المصلحة : فإن كانوا قد قلوا والكنائس كثيرة أخذ منهم أكثرها ، وكذلك ما كان على المسلمين فيه مضرة فإنه يؤخذ أيضا ، وما احتاج المسلمون إلى أخذه أخذ أيضا .
وأما إذا كانوا كثيرين في قرية ولهم كنيسة قديمة لا حاجة إلى أخذها ولا مصلحة فيه ، فالذي ينبغي تركها كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لهم من الكنائس ما كانوا محتاجين إليه ثم أخذ منهم .
وأما ما كان لهم بصلح قبل الفتح مثل ما في داخل مدينة دمشق ونحوها ، فلا يجوز أخذه ما داموا موفين بالعهد إلا بمعاوضة أو طيب أنفسهم ، كما فعل المسلمون بجامع دمشق لما بنوه .
فإذا عرف أن الكنائس ثلاثة أقسام : منها ما لا يجوز هدمه . ومنها ما يجب هدمه - كالتي في القاهرة مصر والمحدثات كلها - ومنها ما يفعل المسلمون فيه الأصلح كالتي في الصعيد وأرض الشام ، فما كان قديما [ ص: 1197 ] على ما بيناه ، فالواجب على ولي الأمر فعل ما أمره الله به ، وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من إلزامهم بالشروط عليهم ، ومنعهم من الولايات في جميع أرض الإسلام ، لا يلتفت في ذلك إلى مرجف أو مخذل يقول : إن لنا عندهم مساجد وأسرى نخاف عليهم ، فإن الله تعالى يقول : ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) وإذا كان [ نوروز ] في مملكة التتار قد هدم عامة الكنائس على رغم أنف أعداء الله ، فحزب الله المنصور وجنده الموعود بالنصر إلى قيام الساعة أولى بذلك وأحق ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة ، ونحن نرجو أن يحقق الله [ ص: 1198 ] وعد رسوله حيث قال : " " ويكون من أجرى الله ذلك على يديه وأعان عليه من أهل القرآن والحديث داخلين في هذا الحديث النبوي ، فإن الله بهم يقيم دينه كما قال : ( يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) .